البحث عن النقاء ، خالي من السياسة تجوب الأرض ، ثم تعود ، فتأخذك شهقةٌ وأنت تتناول أول جرعة من ماء النيل العذب ، فتدب الحياة في جسدك بعد أن تراخى جسدك عن الحياة خلال أسفارك البعيدة . ياه ، كيف تركت روحي هنا وأمضيت سنواتٍ تحت سطوة البعاد وأنين الشتات ؟ كيف حملتني الأرواح الشريرة فوق أحصنة الجن إلى بلاد لا ماء فيها ولا كلأ ؟ كيف استطعت الاستسلام لرغبات الجسد وتبعت الأهواء الشائهة ؟ الغريب أنني كنت أعلم الحقيقة ، وما وراءها . وكنت أرى نهاية الحصيلة قبل أن أبدأ مشواري الموسوم بالتعاسة . شيءٌ ما كان يسوقني إلى ما يشبه حتفي . كان يدس في سمعي أنني سأذهب إلى الحياة هناك . نعم إنها حياة ، لكنها لا تشبه الحياة في بلادي . حياةٌ يزداد فيها الحرص على الشق المادّي ، وتعلو فيها الشهوات والغرائز . إنها حياة الانكماش الاجتماعي ، والتناقص في كل شيء. هنا ، تقابلك الصعوبات في كل شيء، حتى تشعر كأنك تصارع الجبال . لكن الأمر تشوبه متعة ما بعدها متعة . تسكن بيتا من طين ، لكنه يظل في مخيلتك قصرا منيفاٌ . تنتقل بوسائل المواصلات ، وتستمتع بمشاويرك عبورا فوق جسور النيل وعبر الطرقات التي يحفها الزرع والخضرة والنماء . تصادفك ( راكوبة ) من قش أو حصير أو قصب الذرة ، فتستمتع بكرم أهلها وحسن معشرهم . وإذا زرعت وأسقيت وبذلت جهدا في تربية الحيوان ، فإنك لمن الأثرياء مالا وجاهاً . مالها البلاد تضيق بنا ؟ مالها انقلبت كأنها تتآمر علينا ؟ من الذي حرّضها ؟ من الذي قصّر في حقها فبادلته تقصيرا بتقصير ؟ كيف يمكن أن نعيدها إلى خصبها ونمائها وطيبة أهلها ؟ كيف يمكن أن نحوّل حياتنا من هذا الجحيم إلى حياة السّمر تحت القمر ، والرفاه ، والأنس الهادئ في ليالينا التي لا تعرف الملل ولا الشيخوخة ؟دواخلنا ، نفوسنا ، ضمائرنا ، يجب علينا تنقيتها من كل شائبة ، من كل حسد ، من كل رجس ، من كل خيانة ، فنثوب إلى رشدنا ، نتعافى ، نتصالح ، ثم نخرج في هبّة قوية نحو الحقل ، المنجم ، النهر ، الغابة ، نغطّي كل شبر من بلادنا ، نلتصق بها ، نؤانسها ، نسبر ظاهرها وأغوارها ، ونستمتع بخيراتها ، فترضى بلادنا عنّا ، وتبادلنا حباً بحب .