(كنا حلقة من ماركسيين مستوحشين في خرطوم ٢٠٠٥ نجتمع في مكتب عند محطة كترينا لنتدارس شأن الوطن. ووجدت صدفة نص كلمة كنت ناقشتها معهم عن دارفور. نظرت فيها ل”الكتاب الأسود”، إنجيل مسلحي دارفور وعريضة ظلامتهم في السودان، من زاوية أنه برنامج لبرجوازية الهامش الصغيرة التي سقفها، وإن طالت بنادقها، هو الوظيفة. وأنشره على علاته بعد نحو عقدين من كتابته في ظرف صدقت فيه أكثر نظراته عن هذه الحركات مما أرانا جبريل ومناوي مما رأوا. وهؤلاء قضوا نحبهم البرجوازي الصغير ومنهم من يستعصم بالجبال ما يزال. وأهديه لتلك الجماعة القليلة التي صابرت على ماركسيتها هونا في ظهيرة الخرطوم ثم تفرقت.
توزيع أفراد الطبقة التي تمكنت من الوظائف في الكتاب عشوائي. فسبدرات شمالي وهو من القطينة على النيل الأبيض بينما المتعافي أوسطي وهو من الدويم الجنب القطينة. وصار أبو القاسم محمد إبراهيم عندهم أوسطياً بينما عاش أهله لأجيال في بري والهاشماب بأم درمان. وفي الأصل هم من كمير ود هاشم بدار الجعليين. وقال الكتاب بأن غازي العتباني أوسطي بينما هو عاصمي لأهله أحياء معروفة باسمهم مثل تلك التي في أم درمان وبحري.
وتأمل كيف يلقي الكتاب الصفة الإقليمية على الناس جزافا للفحص:
عمر طه ابو سمرة شمالية
بدور ابو عفان حسن جحا شمالية
كمال علي محمد شمالية
بدرية سليمان شمالية
سعاد الفاتح شمالية
إبراهيم أحمد عمر شمالي
صلاح محمد محمد صالح شمالي
على عثمان محمد طه شمالي
عمر البشير شمالي
الزبير بشير طه أوسطي
يشير الكتاب إلى فترات اسثنائية حظي الغرب فيها بميزات جاه. من ذلك قوله إن فترة السبعينات قاربت في التنمية العادلة للقطر بعد تباعدها منذ عهد الاستعمار. ثم اختلف الأمر في العقود التالية التي تركزت فيها الخدمات في الشمال والأوسط:
من يزعم مثل الكتاب أنه سبق للغرب الحظوة في السبعينات تحت حكم نميري سيصعب عليه الإجابة على ما يلي:
1-كيف تنازلت الفئة الشمالية المهيمنة من امتياز قصر التنمية على أهلها في الشمالية وقادت، وهي ما تزال في دست الحكم في السبعينات، تصحيحاً مقاربة منها للقسط؟ هل من عادة طبقة متنفذة شديدة التحيز أن تنقلب على نفسها وتعدل بدون سبب معلوم؟
2-ما الذي جعل الإقليم الأوسط يحظى بالخدمات الكثيرة الموصوفة في الكتاب وهو الخاسر في ميزان السلطة كما رأينا في المرة القادمة. بل هو الأخسر من الغرب أحياناً. بكلمة أخرى: كيف تدبج الأوسط بالخدمات وحظه في السلطة قليل حتى بالنظر للغرب؟ فمثل هذا القول يفسد حجة تلازم التنمية مع التمكن من السلطة التي تذيعها، إلى حد الملل، برجوازية الهامش الصغيرة إلا إن أرادت لنفسها جعل نيل وظائف الدولة هو القسط وكفى.
مما يعيب منهج الكتاب في تحليل طبيعة السلطان الذي ظلمهم ناظرين ألى العرق (وفي العرق قبائل أسعد من قبائل) أنه لم يتوقف عند طبيعة القوى الحاكمة فيما دون المركز. فأشتكى من ضرب من التهميش في القضارف من غير أن يتوقف إن كان سببه طبقة المركز الحاكمة من شايقية ودناقلة وجعليين، أم طبقة القضارف الحاكمة التي لا نعلم عنها شيئاً، أم أنه تحالف لهذه الجماعات في المركز والولايات؟
ولعل أكثر ما أفسد حجج الكتاب أنه ثمرة خصومة الإسلاميين المعروفة. وهي خصومة خسر فيها قطاع من الشماليين المتنفذين من شيعة الترابي وفاز الآخرون. ويتوقع المرء أن يتوقف الكتاب عند هذا الانقسام في الطبقة الحاكمة الشمالية في سياق مشروعها الإسلامي (ضمن مشاريع أخرى) طالما قال إنها ظلت تقبض على مقاليدالأمور في المركز بشكل سرمدي. والترابي بالطبع من صفوة الحكم الشمالي حتى فارقته جماعته. فقال الكتاب إن ما سبق الإنقاذ من حكومات نأت عن الإسلام في صورتها لحكم السودان. والتزمت الإنقاذ بالإسلام. وكان من شأن استصحاب تطبيق الإنقاذ للحكم الإسلامي (مهما كان الرأي فيه) أن ينتقل بنا من حكم قبائل الجعليين والدناقلة والشايقية، مثار شكوى برجوازية الهامش، إلى نجاح الإنقاذ في الحكم بالإسلام، أو فشلها. كان السؤال الجدير هو: هل أفسد الشماليون الحكم بغريزتهم المهيمنة العرقية أم لأنهم طرف في مشروع إسلامي غير موفق؟ فإذا كان الشماليون هم نفس الوحش القديم (العرقي المهيمن) فما جدوى معالجة قصورهم على ضوء الحاكمية لله كما فعل الكتاب. فيا عرق دساس عند كل شمالي، يا إسلام قرين العدل عند بعض الشماليين.
لم ينجح الكتاب في التمييز بين عرق الطبقة الشمالية الحاكمة ومشروعها الإسلامي. فنجده إما صمت عن هذه الإثارة أو مال إلى الترابيين. فنعى على خصوم الترابي كيدهم لإبراهيم السنوسي، والشفيع محمد أحمد، وحسن حمدين، ود. على الحاج من أبناء الغرب وكأنهم بهذه الصفة براء من المؤاخذة على فعائل الإنقاذ.
ولما لم ينظر الكتاب في سداد المشروع الاسلامي عاد يزكيه على يد المنشية (الترابي) لا القصر (البشير). فالحل عنده يقوم على تأصيلية للحكم مما اتفق للترابي وحركته بعد تخلص الإنقاذ منهما. وجاءت عناصر هذا التأصيل في فصل من الكتاب يبدو أنه نصيب وضاعه من الترويج للترابي. فركائز الحكم الإسلامي التي ينبغي استعادتها هي:
إعمار الأرض، الحرية، إشاعة العدل، الشورى، الحكم رسالياً.
من نواقض حكم الصفوة الشمالية، في قول الكتاب، دوران السياسة فيها على محوريّ الطائفية (ختمية وأنصار). وغذى ذلك تهميش الغرب وغيره. فنظام عبود في نظر الكتاب مثلاً ختمي صُر ولذا لم يكن فيه تمثيل للغرب. فركز عبود على الشمالية ولم يتعد مساهمته في دارفور عن مدرستين مهنيتين وثانوية بالأبيض. وتعييب الطائفية هنا في غير موضعه. فالكتاب نفسه يعتقد أن من أميز الفترات التي وجد الغرب فيه حظه من بعض السلطة كان على عهد الديمقراطية الثالثة للإمام الصادق المهدي. والسبب غير عصي. فقد نال الغرب تلك الميزة بفضل الولاء الطائفي للأنصار.
ومن صور تلك العشوائية نقدهم لقلة الإخصائيين في فروع الطب بدارفور. وهذه مسألة علاقتها بهيمنة جماعة ما سطحية. فالأخصائيون “متمردون” على وزارة الصحة لا يريدون مفارقة جنان الخرطوم ومستوصفاتها، حتى لو نقلتهم إلى المتمة المحروسة.
في الكتاب نظرات موفقة ع التحفظ نجملها:
1-من جهة هموم دارفور الأكابر، الشعب، نقد الكتاب محقاً إهمال الزراعة المطرية (السمسم، الصمغ، الكركدي، الفول السوداني)، أو التقليدية، لدعم الزراعة المروية. ونسب الإهمال إلى جريهم وراء توطين القمح في الشمالية هرباً من الجزيرة نفسها.
2-كما صفى المركز وحدات القطاع المطري الآلية في ولايات الهامش مثل مشروع جبل مرة وغرب السافنا. وفات عليه أن يذكر تصفية مشروعات الشمالية (بل قال إنها لم تحدث) التي أدارت عدداً كبيراً من مشروعات الشمالية كالقرير والعالياب وغيرها.
ولكن الكتاب كل ما ذكر قضية من الأكابر عاد يتحدث عن بؤس نصيب صفوة دارفور في وظائف المؤسسات التي تدير قمم الاقتصاد: البنوك، الزكاة (وصراع الشايقية والجعليين والدناقلة) ولجنة تقسيم الموارد القومية. وكأن الظن بهم أنهم، متى تقلدوا مقاليد الحكم في المركز، سينصلح حال دارفور وغيرها من الهامش وتعيش في تبات ونبات.
وجاء الزمن لنقول لأفندية دارفور وهم في سدة المركز بسلاحهم الفاجر: أها دا الجمل ودا حميدتي.
IbrahimA@missouri.edu