أشهد أنا الموقع أعلاه بأن حراس اللغة والكتبة الجالسين القرفصاء عند بوابات التاريخ قد أذنوا لي بالكتابة عن مراكش بعد خمسين عاما من التشوف والإنتظار. وتبرئة لذمتهم من تهمة التحامل والتعسف، أشهد أنهم لم يفعلوا ذلك بأمل أن يستقيم عود لغتي وتصفو بصيرتي ولكن لإيمانهم بأن الكتابة عن مراكش مغامرة غير مأمونة العواقب وفعل قاصر لا يليق بالعقلاء. ولكن، أصلا، هل ثمة شيئ لم يكتب عن مراكش بعد؟ وها كتيبات ومطويات الترويج السياحي الفج تغمرك بكل ما تريد وما لا تريد معرفته عنها: معنى اسمها الأمازيغي الجميل وعمرها الطويل بإذن الله وسعتها العمرانية ومواقع تراثها المصنف عالميا عند اليونيسكو وفائض انتاجها من المزاح والضحك الذي ألصق بها صفة «البهجة». ومع ذلك سأتوكل على الخالق وأكتب، على مهل، عن مراكشي الأخرى، تلك المتفلتة من قواميس الإعلانات وخشب البيانات الرسمية وكلمات الأغاني التي تقطع ليل العاشقين بالحسرات. فثمة مراكش أخرى لكل من يريد، مراكش خلف الصور النمطية التي تتقافز كالمهرج لتوهمنا بأن من رأى نخلة فقد رأى مراكش، وأن من ذاق الـ«طنجية» فقد ضمن مقعده في جنة جامع الفنا. ولكن في حسابي أن مراكش ليست نخلة سامقة في ممر النخيل حيث تتكدس ثروات الليبراليين المتوحشين، او وجبة غداء دسمة في مطاعم لا تفتح أبوابها إلا لمن حجزوا موائدهم قبل شهر بالتمام والكمال. وسأستغفر الله لي ولكم قبل أن أذهب أبعد بقولي أن مراكش ليست معادلا موضوعيا لجامع الفنا ومئذنة الكتبية ومقابر السعديين وحديقة ماجوريل وفندق المامونية الذي «إن سألت عن كلفة ليلته فلن تقدر عليها» كما سارت به اعلاناته في الهيرالد تريبيون ذات وقت. في الواقع.. يبدو أنني سأرتكب جرما لن يغفره أهل البهجة إن نزعت عن مدينتهم علاماتها وعناويها ذائعة الصيت، ولكن لنضع كل شيئ في سياقه وننصب المنطق وحده حكما بيننا. لنبدأ، على سبيل المثال، بالتساؤل عما يدفع يابانيا في أرذل العمر لقطع كم هائل من البحار والجبال والصحارى والحدود التي لا يراها، لكونه في حالة طيران، وصولا الى مراكش وهو يعلم يقينا أنه سيرى فيها سيارات يابانية وعمارات لا تختلف كثيرا عما يراه في هوكايدو وسيشرب ذات الكولا ويأكل نفس «الشاطر والمشطور وبينهما طازج» الذي اعتاده في ذلك الطرف القصي من العالم. هذا الأحساس بـ«اليابان في المغرب» لن يبارحه الا في حالات قليلة. فلماذا يتكبد كل هذا العناء: لرؤية مروض ثعابين في جامع الفنا أم للافطار بأملو وزيت الزيتون والحرشة في روض يانع بالمدينة القديمة؟ سأقول بأعلى صوتي: لا هذا ولا ذاك فكل الملايين التي تحج الى مراكش من أصقاع بعيدة وتصرف عرق جبينها الحار لا تبحث عن مأكل ومشرب وفرجة يمكن ان تحصل عليها مجانا من يوتيوب. هم أسرى سحر مراكش، يناديهم فيلبون سمعا وطاعة. في سنوات عديدة سابقة، كان مما يثير حماسة الأغيار لزيارة مراكش، حسب حملات الترويج السياحي البليد ، أنها مكان «exotic» كما لو ان السياح سيقفون عند إشارات المرور يوما كاملا بانتظار أن يعبر قطيع الجمال من سهل تاركا الى فضاءات حي غليز. لو قالوا أنها «مختلفة» different لكانوا أقرب الى الصواب لأن سحرها الأخاذ يكمن في حنايا هذا الاختلاف وفي حزمة التفاصيل الصغيرة التي تجعل التواصل الانساني متاحا قدر الاجتهاد وتتيح للود أن يأخذ مجراه في الشوارع الفسيحة. عندما كتب إلياس كانيتي Elias Canetti (جائزة نوبل للآداب عام 1981) عن جامع الفنا لم يكن مأخوذا بالـ«مثير» وانما بالـ«مختلف»، كما هو حال ونستون شيرشل الذي أمضى عاما في فندق المامونية أكمل فيه كتاب «حرب النهر» وأنجز لوحة واحدة مشهورة باسم «برج الكتبية». ولك أن تذكر ما شئت من الفلاسفة والكتاب والشعراء والرسامين والسينمائيين من مختلف دول العالم لتكتشف أنهم يذهبون مذاهب شتى في كل مناحي الحياة ولكنهم يجمعون على شيئ واحد هو: سحر مراكش الذي لا يعصى له أمر. والآن إذ تزدحم مراكش برؤساء الدول السابقين واللاحقين، باذن الله، ورجال الأعمال العابرين للحدود بجيوشهم الخاصة ومشاهير لاعبي الكرة العالمية برؤوسهم الكوادريكروم ونجوم السينما الصاعدين والهابطين في سلالم هوليود وبوليود، تزداد قناعتي بأن سحر مراكش لن ينقطع وأن هذه الفئات الاخيرة التي لا أرغب في ذكرها مجددا لا تريد إلا أن تعرف كيف تطلق مراكش سحرها في العباد وكيف يتحول كأس شاي بالنعناع، في أحد مقاهي غليز، الى متعة حسية تخالطها تجربة روحية خالصة. وهو ذات الكأس الذي يشربه الفقراء بخمس دراهم في المدينة العتيقة ويدفع علية القوم خمسين درهما لالتقاطه في سيلفي بقاعات فندق كريستيانو رونالدو. ولعل الشاهد هنا أن مراكش لا تقصي مريدا أو طالب قرب إن أحسن اختيار جغرافية عشقه الخاص. غير ان مراكش يا سادتي غير ما توحي به بطاقات البريد وثالوثها المقدس: النخلة وجامع الفنا والكتبية. هي في كل هاته العناصر وخارجها في ذات الوقت. فالنخيل الذي يزين شاطئ الرباط لا يحيلني على مراكش كما أن ساحة «وطا الحمام» في شفشاون لا تمت بصلة قربى لجامع الفنا رغم ازدحامها بصينيين ويابانيين وفرنسيس وسياح من واق الواق يطيلون النظر في كل شيئ بغية اكتشاف الغريب والمثير… ولكنهم لا يرون الا ما يراه مدير الرحلة وسائق الحافلة. هي مراكش واحدة في مجرة التبانة، لا تستنسخ ولا تقلد ولا تقسم على اثنين، ولا يعصى لسحرها أمر. وأول سحرها عندي، وأنا من عائلة يفطر أطفالها بالألوان ويتركون ما تبقى منها لعشاء آبائهم، هو ذاك الضوء الذي لا يضاهى ولا شبيه له في هذه المجرة، الضوء الذي دوخ هنري ماتيس في طنجة العالية وماجوريل وإيف سان لوران في مراكش. قطعا، لا سلطان للطنجية والثعابين المروضة في حالة ماجوريل الذي أصبح ابنا لمراكش إذ أن المفصلي في ارتباط الرجل بالمدينة هو علاقة التشكيلي بالضوء، فارقد بسلام مسيو ماجوريل، صارت حديقتك أيقونة للمدينة بعد أن طاف عليها مسيو إيف بدفقات من أزرقه الذي انقطعت بعده أنساب الألوان وحارت فيه الألباب. ولكن ما بال مراكش تكيل بمكيالين: قبر فارغ لإيف سان لوران في حديقة ماجوريل، قلب الشبكة العصبية للمدينة، ليترحم عليه عشاق الموضة وأشجار الصبار، وقبر للمعتمد بن عباد في «أغمات» لا يزوره غير الشعراء الطاعنين في خيباتهم المزمنة. ربما هو رأي أصحاب الوقت في من تبع القوافي وضل هدي السبيل السلطوي. قد نقول: ربما تزن مراكش أحكامها ببراغماتية مفرطة في التشفي والقسوة ولكنها لا تلقي بالا لكل هذه التخرصات وتعد عدتها لسفر طويل نحو المستقبل على متن قطار فائق السرعة سيجعل أكادير على مرمى حجر وبحر، ولا بحر في مدينة كلما نطق المحبون إسمها تناثر الورد في المكان. في البدء كانت مراكش اسما لبلد وهوية لوطن، ولكني لحسرتي لم أكن هناك ساعة قران الجبل والصحراء الذي أنجب مراكش وأطلق أرواحنا في متاهة سحرها السرمدي. ويا مراكش: ها جموع المحبين الدراويش تحت شرفاتك العالية ، وها زمان التوحد بين ساحرة المدائن والمريدين، فلترفعي الأستار والأقنعة، ولتأخذي برفق كل القادمين إليك من تعب قديم. ….. *حسن عثمان: صحفي، مترجم وكاتب يعيش في مملكة المغرب منذ العام ١٩٧٠م