فى منتصف الستينات كنا نتباهى ( بالعصارة) امام منزل جدى يماني صادق له الرحمة والمغفرة في قريتي جزيرة أرنتى قبالة عبري بالشمالية. وداخل المنزل بلفتين من الدبلان والدمورية . وقرب منزلنا نتفاخر بنخلة طويلة تسمى ( الشانادة ) وداخل المنزل بعددين من مجلة روز اليوسف ، أحضرها الوالد عندما عاد من الغربة . قرأناها خمسة عشرة عامآ متواصلة . كانت ( العصارة والدبلان والدمورية ) تمثل الرأسمالية بينما ، ( الشانادة ومجلات روز اليوسف القديمة) تمثل الإشتراكية .. عشنا حربآ باردة فى تلك المرحلة أيام الصبا . نهتف أمام منزل جدى فى حى مشكيلة: لن يحكمنا البنك الدولى .. ونهتف أمام منزلنا فى ( أوبا ) : يا عمال العالم إتحدوا …
ما هذه الجزيرة الصغيرة الغريبة التى ترعرعنا فيها ؟ عتلة الأمباز قرب العصارة (ومقص) الدمورية رمز الحرية .. وهناك ( المنجل ) قرب الشانادة رمز الفلاح . فى جهة العصارة يأتى أصحاب المال وأسفل الشانادة يستظل المزارعون . حين يصيبنا السعال الديكى أسفل الشانادة كنا نجرى للعصارة ونشرب “زيت الولد ” ونأكل ” الجغوغة “. صراع يشبه صراع الحضارات . قرأنا فى واحدة من أعداد روز اليوسف القديمة عن حرب الكنغو وإستقلال نيجيريا ومقتل كندى فى تكساس. وقرأنا فى العدد الآخر عن شخص يدعى نيكيتا خورتشوف ضرب منضدة فى الأمم المتحدة بحذائه.
شاهدنا قرب العصارة hستقبال السيد على الميرغنى زعيم الختمية وأكلنا ( الفتة ) وصفقنا لمحمد نور الدين حين وعد نساء البلدة بأحذية الذهب.
عزيزة ، كانت دومآ ترعي الغنم قرب الشاطيء ، أتذكر طفولتنا وخرير النهر ، روائح الخروب وثمار الطلح الأصفر . أتذكر الغدير :
أيا (غديراً) له في النفس منزلــــة
مازال في القلب ذكرى منك يبقيها
فهل ترى ياغدير الأنس تذكرنــــي
أتذكر الوطن الصغير والشمس تملأ الأرض ، أتذكر ومصابيح السماء ترسل سهامها المضيئة أتذكر كلما أري شجرآ ينشر ظلآ ونهرآ يجري .. أتذكر فى كل مظاهر الجمال والروعة .. وكلما يضيق شعوري بالغربة .. كلما يزداد فقدان الثقة بالنفس .. كلما تغدر بنا الوحدة ويهاجمنا السأم .. أتذكر أكثر فى السادس من أبريل .