الأصل، أنه ليس هناك شيئ يؤخذ على مُقرئ وإمام مسجد الحاجة سيدة سنهوري “شيخ الزين” لكونه يمتلك سيارة ومنزل فاخرين بما يُثير عليه هذه الضجّة بالصحف والأسافير عندما أُكتُشِفت ذلك بمناسبة إبلاغه الشرطة عن سرقة سيارته “البرادو” من أمام منزله بضاحية الطائف الراقية شرق الخرطوم، ذلك أن من حظ هذا الشيخ أنه أصبح إماماً على مسجِد يتوسّط بيوت الأثرياء الجُدُد الذين فاضت عليهم النِعمة حتى أصبحت رِزمة المليون عندهم تسوى أقل من مليم، من بينهم وزراء ومديرو بنوك وأصحاب جامعات ومحاظيظ ترسيات عقود توريدات المباني والأجهزة والمعدات والمشاريع الحكومية، ومثل هؤلاء الأكابِر لديهم إستعداد – بعد أن أمّنوا حياتهم في الدنيا – أن يدفعوا أيّ مبلغ لمثل هذا الشيخ وهو صاحب صوت يُدمِع العيون عندما يقرأ القرآن، فترتاح قلوبهم إليه برفع فاتِحة يلحقوا بها آخِرتهم.
ولو أن حظ “الزين” كان قد أوقعه في مسجد ناحية إمتدادات أطراف العاصمة (من بؤس أهلها لا من قِلة ورعهم)، لما خرج منهم ب “بوسكليتة” وغرفة مُشتركة في منزل إيجار، فقد طالعت تعليقاً بليغاً في موقع “سودانيزأونلاين” للكاتب عبدالله عثمان قال فيه أنه يأسى على الزمن الذي كان فيه الشيخ الجليل عوض عمر “وهو شيخ شيوخ مُقرئي القرآن في السودان” حين كان يربط حمارته على شجرة الإذاعة ويدخل الإستديو ويُبكي الناس بتلاوته ثم يخرج ويقفز على ظهرها عائداً إلى منزله بوسط أمدرمان.
ثم، أن الذين دافعوا عن شيخ الزين من زاوية أن الذين هاجموه فعلوا ذلك بدافع “الحسد والنبيشة” وقارنوا بينه وبين المطربين الأثرياء من مروّجي الغناء الهابط (ورد ذلك بألفاظه في مقال للصحفي ضياء الدين بلال) أخطأوا في ذلك وأساءوا للإمام الزين، كما أن في ذلك إغفال للجوانب الحقيقية التي كانت وراء الهجوم عليه، والتي تمثِّل حجم القضية الحقيقة التي كشفت عنها سرقة “برادو” هذا الشيخ.
أول هذه الجوانب هو إختلال ميزان الثروة فيما بين أفراد المجتمع، فالعمر الذي بلغه هذا الشيخ الشاب (35 سنة)، أمضى مثله أو أكثر منه آخرون حياتهم في العمل والكد والإجتهاد في الزراعة والتجارة والوظيفة (بما في ذلك كثير من المغتربين) وهم يعيشون اليوم في بؤس وفقر ويعجزون عن توفير مسكن من طين بأي حي فقير ويعجزون عن تحمّل مصاريف دراسة الأبناء وعلاج أفراد الأسرة، ومن بينهم مدرِّسون خرّجوا أجيالاً وزراعيون وإقتصاديون وأساتذة جامعات وضباط جيش وشرطة، أنفقوا قسماً كبيراً من حياتهم في الدراسة والتأهيل وقدّموا خدمات جليلة للدولة والمجتمع ويبلغ أقصى معاش تقاعد لموظفي الدولة اليوم أقل كثيراً من أربعمائة جنيه.
كما أن الزاوية الأخرى في هذه القضية تتصل برعاية أجهزة الدولة لشئون إمام هذا المسجد بالذات بدافع من نفوذ مرتاديه الذين يؤمّهم بالصلاة، فقد كثّفت أجهزة الشرطة جهودها بالحد الذي عثرت فيه على سيارة الإمام في بحر ساعتين من إبلاغه بسرقتها، وهذا عمُل طيّب، ولكن لا يجد نظيره كلّ المبلّغين عن سرقة مُقتنياتهم من عَوَام المواطنين، فالحقيقة التي لا جدال حولها هي أن الذي يُبلغ قسم الشرطة بسرقة يُطلب منه شراء الورق الذي يُقيّد فيه البلاغ، كما تطلب منه الشرطة توفير سيارة للبحث عن المسروق أو إحضار قصّاص الأثر .. إلخ.
الدين الصحيح ليس فيه طبقات للمساجد ولا الشيوخ الذين يقيمون الشعائر بها، ولا أعتقد أن السيدة الفاضِلة سيدة سنهوري وأبناءها البَرَرة قد قصدوا أن يجعلوا من وقفها لهذا المسجد لطبقة المُصلين من ذوي الملافِح البيضاء أصحاب الأموال والموسرين بحسبما إنتهى إليه، يعقدون فيه زيجاتهم، ويتسابق فيه الناس للقاء المسئولين، فقد روى لي من يقول أن المُصلين بهذا المسجد قد إشتكوا من إمتلائه في صلاة الفجر بباعة اللبن الذين يأتون إليه من المزارع القريبة بالجريف لقرب المسجد من مناطق التوزيع بمنطقة الرياض والمنشية وهم بُسطاء يأتون إلى المسجد بملابس رثّة تنبعث منها رائحة البهائم واللبن المسكوب عليها، وقد نتج عن ذلك صدور قرار بتجفيف تلك المزارع كمصدر للألبان.
وأخيراً، تطرح هذه القضية إستغلال أئمة المساجد لها في تحقيق المجد والثروة، وقد كتبت في ذلك من قبل عن تجربة إمام المسجد الأشهر عصام أحمد البشير، فقد هتف الشعب من قلبه من قبل للشيخ عصام حينما كان يُعارض النظام، وقد كان الناس يحجّون لسماع خطبة الإسلامي الجسور بمسجد حي العمارات في كل جمعة، فيأتون اليه من كل أركان العاصمة، من الثورات والحاج يوسف وسوبا الحلة، وكان يجهر في خطبته بالحق، فصدّقه الشعب، ثم إكتشف بعد ذلك أنّه كان يبيع الكلام ويشتري بثمنه المجد الذي بناه لنفسه بدخوله حكومة الإنقاذ( حكومة الرئيس عمر البشير) وعمله ضمن طاقمها كوزير للشئون الدينية والاوقاف، وما إن بلغ المنصب حتى وضع يده فوق يد الجلاد، ونزل من منبر الشعب، وإعتلى منبر الإنقاذ، وصار يحكي بلسانها، ويردّد أكاذيبها، ويروّج لمشروعها بأفضل مما يفعل الذين كان يشتمهم قبل بلوغه المنصب الوزاري.
وحين خرج من تشكيلة الوزارة، كان المنصب قد حقق له حلمه في الإنتشار والشهرة في الأوساط التي كان يستهدِفها، فقد يسّرت له رحلاته للبلاد العربية أثناء فترة عمله بالوزارة تقديمه وتعريفه بالمسئولين والأثرياء في دول الخليج، الذين فتنهم بحديثه وعلمه في الدين، فهجر منصّة الخطابة بمساجد الخرطوم، وإنتقل ليخطب في أهل الكويت، فعرضوا عليه وظيفة ثابتة كعالم دين بأجر كبير يُناسب مقامه كعالم ووزير، ومن الكويت كان يخطف رجله كلما سُنحت له فرصة الى باقي دول الخليج، ولما شبِع وإستكفى من أموال الخليج، عاد ليحكي إلينا – من جديد – في السودان عن الصبر على الفقر والشدائد وعن عذاب النار، ويروي لنا عن واجب المسلم في (طاعة) السلطان حتى لو كان فاسداً ومجرم.
هذه هي القضية، وهي ليست قضية إمتلاك شيخ لسيارة “برادو”.
*الكاتب: مستشار قانوني
saifuldawlah@hotmail.com