يضطر المرء أحيانا لرسم مشهد ما رمزى لاستعادته فى الخيال ،خاصة اذا كان من احداث زمن الحلم فى ربعنا الجميل فارسكى باقصى شمال السودان .. واذا كنت مثلنا معذبا بغربة الحنين الى القرية سوف تدهمك التفاصيل الصغيرة المرتبطة بتلك الاحداث وعلى راسها طقوس صيام رمضان .واول ما يطوف بخيالك صور اولئك البسطاء الانقياء الذين عاشوا حياتهم امام اعيننا بلا خداع او زيف فغمروا المكان دفئا على دفئه..كل رمضان نفس النسيج البشرى ونفس الوجوه ونفس الاطعمة ونفس العصائر الساخنة حيث لا ثلج ولا يحزنون .. كأن ارث الوجع التاريخى وقسوة الطبيعة وقلة الحيلة ليست كافية ياتى رمضان فى عز زمهرير الحر لدرجة انك تخشى ان لا يعيش اولئك المتعبون حتى نهاية الشهر الفضيل بسبب الانهاك الذى يبدو عليهم اثناء النهار .. يدخل واحدهم ( المسيد ) الذى يفطرون فيه ولسانه ممدود الى الخارج ثم عند الافطار يملأ جوفه بالماء الساخن ويتمدد على البرش مطلقا العنان للسخرية الحادة للتغلب على الاجواء المعادية. وقد قال الشاعر قديما : حزيـران وتمـوز وآب ثلاثة أشـهر فيهـا العـذاب نعم جميعهم فى المسيد متجمدون فى اماكنهم بالاحرى يرقدون على ظهورهم وقد ظهر عليهم الاعياء بعد تناول الطعام والعصائر فلا يرفعون رءوسهم الا عندما تبدأ ( جوزة ) سعيد نورى كركرتها . ومثل اى مكان آخر كان مسيدنا يتشكل من شخصيات من مختلف الاعمار معظمهم من طبقة المزارعين . بينهم شخصيات تقوم بواجبات غير مكتوبة بمعنى ان لا احد عينهم للقيام بتلك الواجبات لكنها باتت روتينا سنويا مقدسا ، فعمى خيرى وحده من يهرول للخارج اذا ما جاءنا صوت عربة او عابرى سبيل وسوف يلقى عليهم يمين الطلاق وياتى بهم لتناول الطعام والشراب . وخيرى وحده من يحول المسيد الى مقهى يتسامر فيه الناس حتى السحور مع الكوتشينة والكركدى والسحلب ،وكان سليمان محمد طه شديد الارتباط بالاطفال وما كان يروق له رؤية تركيز الاطايب حول الكبار وحدهم او ان يجلس الشخص خلف طعامه وحده ولم يكن يعجبه منظر البعض الذى يترك مكانه ويمارس الطفو على صوانى الطعام بحثا عن الاطايب ، لذلك كان يتولى توزيع الصحون فى جميع الاتجاهات ليلقى صنيعه تعليقات موحية من الناس كان يقول احدهم : لا بأس فان سوء الانتاج يتطلب عدالة فى التوزيع ، وكان على لبيك يقوم بهذه المهمة ايضا اذا غاب سليمان.مع العلم بان هذا الشغف بالمساواة كان يغيب يومى السبت والاربعاء عندما يحصل الناس على اللحم من الجزارة فى السوق او فى يوم ( الكرامة ) التى يتشارك الجميع لحمها. ومثل سليمان كان جدى سيد عطوفا بالاطفال وكانت له جملة نحفظها عن ظهر قلب معناها يا اطفال اقتربوا اكثر من صوانى الطعام كنا نحرفها نحن الى القوات تتقدم . وفى زماننا كنا ننظر لعبدالله سمنتود بعدم الرضا لانه كان يطلب تاجيل الفطور الى ما بعد الصلاة ، وكان استاذنا جلال محمد طه راقدا على ظهره وخالفا رجليه ياخذ دور المايسترو الذى يفتتح المناقشات وكانت معرفته بالمزاج العام داخل المسيد تتيح له اختيار الشخصية و ابتدار الكلام الذى يستفزه ويجعل الجميع يترقبون تعليقاته.. بينما جدى ابراهيم يمسك بتلابيب حكاية ما قيلت ليقول ضاحكا لجلال : ماذا قال فلان ويكون هدفه فى الغالب اسقاط مضمون الحكاية على شخصية ما تتواجد معهم .فيما كان الخال محمد احمد سيد يكتفى على الدوام بتكملة المعلومات المتناثرة فاذا قال احد كلاما نقلا عن فلان الفلانى يقول له ان فلانا هذا من توندى مثلا!! وكان جدى يوسف بمشاعره الحيادية ومزاجه الحاد يتهم الاخرين بانهم يدعون الصيام ، وكان ايضا طرفا فى نزاع يتكرر اول يوم رمضان مع سعيد نورى فحواه ان الاول يقول اننا صمنا متاخرين يوما يوما فيخرج الثانى لرؤية الهلال ويعود ليؤكد ان الصيام صحيح .وكان جدى محجوب يقول دائما ان اليوم سجل اعلى درجة حرارة وان الصيام كان الاصعب لاثارة شقيقه يوسف وكان عادة يلتفت نحونا و يسأل يا وردى يا عاشور كيف كان اليوم ؟ فنقول صعب صعب لادراكنا ان مثل هذا الكلام قد يستفز البعض ويجعله يقول العكس .لكن احقاقا للحق مر علينا اكثر من رمضان فى الحر اللافح راينا فيه الناس كانهم اقرب للموت بخاصة اولئك البسطاء المكافحون الذين يتطلب عملهم البقاء تحت نيران الشمس فى الحقول . ترى الناس وقد وصلت الروح الحلقوم يبللون الملايات ويرشون الارضيات بالماء بلا طائل وكان البعض ينام تحت اشجار النخيل وفى ارض مسقية ورغم ذلك عندما يقترب اذان المغرب يكون عاجزا عن الكلام ..وبالنسبة لنا نحن الصبية حديثى العهد بالصيام جاءنا رمضان فى منتصف السبعينات فى موسم فيضان النيل الذى يتزامن عادة مع استواء الرطب على النخل وهو وقت يعد مصدر تفاؤل للناس عندنا ، كنا فرحين وضاحكين مستبشرين باجواء الصيام لكن ماهى الا ايام واجتاحتنا موجة من السموم والحر لم نر لهما مثيلا . داهمنا الحر بعدما اعتدنا على تزجية وقت الصيام بلعب الكوتشينة تحت اشجار النخيل او صيد السمك دون الشعور باية مشقة ، ولم نجد مفرا سوى اقتحام النيل والبقاء داخل مياهه اطول مدة ، الى ان جاء يوم اكتشف فيه قائد الشباب عاشور حيلة جديدة للتغلب على زمهرير الحر والحفاظ على شعيرة الصيام . لاحظ عاشور ان شجرة سنط ضخمة عند مشرع جمعة ترسل فروعها الكثيفة نحو النيل وانه مع امتلاء النيل باتت هذه الفروع اما محاذية لسطح المياه او غارقة فيها ، فصعدنا كالقرود ونزعنا الاغصان القوية من الشجرة نفسها وصنعنا منها ( طاولة ) تحيط بها مقاعد جانبية من خشب السنط بحيث تكون ارجلك داخل الماء ، واتينا بملاية وكراتين من اجل الكونكان ، وهكذا سار اليوم بين خاسر يرمى نفسه فى النيل بحثا عن الرطوبة وفائز يقول اجلوا توزيع الكوتشينة ريثما أحصل على ترطيبة .وكان البعض ممن يلوذون بالنيل يتعمدون قضاء اطول وقت فى اعماق النيل فاذا ما رفع راسه تأتيه صيحات المجموعة على وقع الاتهام بانه تأخر لانه كان يشرب الماء بعيدا عن اعين الفضوليين فوق سطح المياه.. لكن الجميع كانوا ينزلون الى اعماق النيل بسبب برودة المياه كلما توغلت الى عمق الاعماق تحت مياهه ، استمر الحر اياما ما ادى لادخال قيود فى الكونكان تتيح للفائز وحده قضاء وقت اطول فى عمق النيل. وكان يحدث اثناء انهماكنا فى الكوتشينة ان نرى اشياء ذات قيمة اتية مع النيل الهائج تطفو على السطح وهى فى الغالب ممتلكات الناس قادمة من اماكن بعيدة .. فهذا هو موسم الفيضان الذى يجرف فيه النيل البيوت والطلمبات الزراعية بملحقاتها ، رايت مرة شيئا كالالمنيوم يلمع وهو يتهادى مع التيار وصحبنى عاشور فى السباحة نحوه وعندما اتينا به للبر وجدناه حقيبة كانت تحوى ربما وثائق مهمة لكنها ابتلت وبليت ولا يمكن قراءة حرف فيها ، وقد عثرنا ايضا على برميل ملىء بالجازولين ذات مرة . وسبحنا ذات يوم نحو جزيرتنا بجبوج حيث وجدنا قرب الشاطىء المئات من بيض السلحفاة فجمعناها وحملناها عائدين للشرق وسط صيحات المجموعة بمحاربة الفول والويكة فى ذلك اليوم لكى يتسيد بيض السلحفاة بزفره مائدة افطارنا . وفى ذاكرتى ايضا كنا عائدين مرة من مصيف السنط فى نهاية يوم خماسينى وراينا كلبين يمارسان الحب فى قارعة الطريق ..وكان عاشور يهوى مطاردة الكلاب ساعات المعاشرة ومتابعة المفارقات المفصلية المرتبطة بمثل تلك العملية ، وكان اذا لحق بثنائى متشابك نثر عليهما الرماد فلا يستطيعان الفكاك وقد قابلنا نورى جبرة اثناء هرولتنا للحاق بالكلبين فى اطراف ضريح الحاج عبد السلام وقال لنا ان ما تفعلونه يبطل الصيام ،مادعانا لمناداته ولوقت طويل بالمفتى. رحم المتعال اقمار فارسكى الذين رحلوا ورطب قبورهم كما رطبوا بلادهم وشمل الاحياء بعنايته ورعايته !!