إن أغلب القضايا العامة التي تستشكل على السودانيين تستدعي سبراً للأعماق وصولاً لتشخيص صائب للداء قبل تحديد حلول لها جذرية ومستدامة. ينطبق ذلك على الأزمة السياسية الراهنة، مثلما ينطبق على التدهور الاقتصادي المستفحل والانفلات الأمني المفزع والتضخم المتنامي في منظومة أسعار السلع الأساسية، وكذلك ينطبق على التراجع المطرد في قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية الرئيسة، وتفشي القبلية واهتراء النسيج الاجتماعي، وما إليها من أزمات آخذة بالتلابيب. بيد أن طرفي المعادلة، من تشخيص للداء وتحديد للدواء، يستلزمان حواراً مجتمعياً واسعاً في بيئة ديمقراطية معافاة سياجها الحرية ومدخلها العدل المشرع الأبواب.
وسوف نجتزئ بتناول موجز للقضايا الثلاث الأول، وهي: الأزمة السياسية والتدهور الاقتصادي والانفلات الأمني.
على الصعيد السياسي، تزعم القيادات العسكرية القابضة على زمام الأمور أن تعطيلها لدستور الفترة الانتقالية يجد مبرراً له في رغبتها بتصحيح المسار الذي يقترن لديها بإصرار شديد على استمرار الانقلاب ما لم يصل الشعب إلى إجماع وطني شامل يؤهل لاستلام السلطة من الحكومة الانتقالية. ذلك ما تؤكده تصريحات قادة الانقلاب ويعضده فعلهم السياسي المعلن والمستتر.
لكن هذا السطح المخادع يخفي تحته مصالح مجموعات طفيلية شرهة استأثرت بموارد البلاد طيلة ثلاثين سنة من حكومة تسلطن فيها تنظيم الإخوان المسلمين وعاث فساداً واسعاً في البلاد. ما زالت هذه المجموعات تنافح، وستظل تنافح، بشراسة للدفاع عن مصالحها ولإبقاء الأوضاع المختلة على ما هي عليه من اختلال. وعلى الرغم من أن هذه المجموعات ترتدي حلة الدين وتباهي بها، إلاّ إن الدين في ذاته لا يهمها قليلاً أو كثيراً. ولعل أبلغ دليل على ذلك أن الإخوان المسلمين، ومن يستشف مصلحته في ثنايا أجندتهم، قد اضطربوا اضطراباً لا مزيد عليه من قرارات لجنة إزالة التمكين، التي كانت ضرباتها أشد إيلاماً عليهم من كل الأفعال الثورية الأخرى من قبيل حظر نشاطهم السياسي وتغيير مناهج التعليم بعيداً عن التدين المظهري الأجوف وإلغاء قانون النظام العام وما كان يرسخه من هيمنة على المجتمع واستعباده وإذلاله.
بالتالي من شأن هذا الأوضاع المختلة، من استئثار فئة قليله بموارد البلاد ومقدراتها، أن تفاقم الأزمة السياسية طرداً مع مرور الوقت. وقد وافق الشعب السوداني، فيما يشبه الإجماع، بأن ثورة ديسمبر إن هي إلاّ ثورة «سلمية ضد الحرامية». وفي هذا الصدد، أكدت الحقائق الدامغة التي أفضت إليها تحقيقات لجنة إزالة التمكين أن الإخوان المسلمين لا يرقبوا في الشعب السوداني «إلاً ولا ذمة» … وأن جميعهم، وبلا استثناء، إما فاسدون أو مستفيدون من ريع الفساد مباشرة أو بصورة غير مباشرة. فخلال ثلاثين سنة من حكمهم، لم يهتموا أبداً بالتدبير السياسي الرشيد، ولا بالمداراة، ولا بالعهود والمواثيق. فوضعوا البلد فوق فوهة بركان متفجر ليس سهلاً إبعاده منها، كما أثبتت وقائع الحال وأغنت عن تكرار السؤال.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يتمثل أس الأزمة في غياب الإنتاجية غياباً شبه تام. فقد كان النمو الاقتصادي سالباً في أغلب سنوات الإنقاذ الأخيرة، وخاصةً عقب انفصال الجنوب في ٢٠١١م. لقد أوضحت البحوث التي قدمت في المؤتمر الاقتصادي القومي في سبتمبر ٢٠٢٠م، أن البلد يشهد خللا هيكليا واضحاً في كافة قطاعاته الاقتصادية، وأن السبب الأساسي في ذلك يعزى لفساد عناصر النظام السابق فضلاً عن الأثر السلبي للحصار الاقتصادي. وأوضحت هذه البحوث أن هذا الخلل الهيكلي يتضح جلياً في عجز ميزان المدفوعات وعجز الميزان التجاري الذي تجاوز الخمسة مليارات دولار في ٢٠١٩م. بذلك اتضح أن الطبقة الإسلاموية الطفيلية تهيمن على مقاليد الأمور السياسية وتسخرها بالكامل لخدمة مصالحها الاقتصادية الضيقة، ضاربةً بعرض الحائط مصالح البلد وضنك العيش المهلك الذي يرزح تحته أغلب أهلها.
في هذا الصدد، نجد غياباً تاماً للحكم الرشيد الذي يتجه إلى بناء الدولة الفعالة ويحقق نتائج التنمية. إذ أثبتت البحوث أن السياسة لم تعد مفهوماً مجرداً، إنما هي أداة ناجعة لتحديد مخرجات التنمية متمثلة في شعوب تعلمت تعليماً أفضل، ونعمت بقسط وافر من الصحة، وأحرزت نجاحات واضحة في الحياة. بالتالي تصبح السياسة محركاً حقيقاً للتغيير، وليست مجرد وسيلة للاستيلاء على مقدرات البلد وتسخيرها لمنفعة فئات دون أخرى.
كما أن بيئة العمل الزراعي والحيواني، ويشكلان معاً عماد الاقتصاد، ليس مواتية للإنتاج بسبب ارتفاع الضرائب والجبايات وتباين سبل تحصيلها، ناهيك عن غياب التشجيع والتحفيز. علاوة عليه، فكثيراً ما تلجأ الحكومة إلى التمويل بالعجز عبر طباعة النقود الأمر الذي يلقي بظلال قاتمة على الأداء المالي. وأشارت ميزانية ٢٠٢٢م إلى أن الصادرات في ٢٠٢١م بلغت ٥ مليارات دولار، بينما كانت الواردات ٧ ملياراً. أي أننا نستورد كثيراً ونصدر قليلاً، أي أننا أمة مستهلكة تفتقر إلى توفير نفقات استهلاكها!
وعلى الرغم من هذا التدهور الاقتصادي المريع، ظل الفساد مستشرياً ومتفاقماً، وهو ما تؤكده أرقام منظمة الشفافية الدولية، وما أشار إليه صندوق النقد الدولي في مشاوراته مع الحكومة لسنة ٢٠١٩م إذ قال: «إن كبح جماح الفساد كفيل باستمرار الدعم الشعبي للحكومة».
أما غياب الأمن، والانتشار السرطاني للنهب المسلح، فهو، في نظرنا المتواضع، مشكلة اقتصادية في الصميم. فمهما كان الوازع الأخلاقي حاسماً، ومهما كانت التدابير الأمنية رادعة، فإن الفقر المدقع هو الدافع القوي لأي انفلات أمني. ذلك أن بعض الأسر تبيت ليلة وليلتين بدون لقمة عيش، ويتضور صغارها وكبارها جوعاً.. فماذا يفعل الشاب الذي يسهر على أسرته ولا يجد له عملاً يوفر أدنى قدر من القوت؟ ماذا يفعل؟
بالطبع من الممكن الاعتراض على حجية هذا المبرر، والزعم بأنه لا يسّوغ الجريمة، وأنه تبسيط مخل للأمر، إلاّ أن التهميش والغبن الاجتماعي والتباين في الدخل بين طبقة متنامية الثراء جداً، وأخرى مستفحلة الفقر جداً، كل ذلك يمثل حافزاً قوياً للخروج عن سياج الأمن، واعتباره سياجاً يستهدف حماية مكتسبات الأثرياء ليس إلاّ. ومع التسليم بعدم وجود إحصاءات دقيقة لحجم الجريمة في السودان على امتداد عقد أو عقدين من السنوات، إلاّ أن دراسات علمية عديدة تربط ربطاً وثيقاً بين عدم المساواة في الدخل ومعدلات الجريمة العنيفة. وبين أيدينا إحصاءات دولية وافية عن معدل التباين في الدخل، وهي معدلات تدرج السودان ضمن أسوأ بلدان العالم قاطبة في هذا الصدد. وكما قال الإمبراطور والفيلسوف الروماني ماركوس أوريلوس، إن الفقر هو أم الجريمة.
وحلاً لمشكلتي التدهور الاقتصادي والانفلات الأمني، نقترح التوسع الكبير في برامج تستهدف خلق فرص العمل للأسر الفقيرة لتصبح منتجة، تعول نفسها ويزيد دخلها عن مصروفها. من الممكن تحقيق هذا الهدف بتوفير قروض مصرفية ميسرة لصغار المنتجين، على أن يتزامن ذلك مع إنشاء حواضن للأعمال المتوسطة والصغيرة والصغيرة جداً لتزويدها بالتوجيه والإرشاد المطلوبين لنجاح أعمالها. وتستطيع الحكومة أن تعتمد على القطاع الخاص في تمويله، على أن يظل دورها مؤكداً للعدالة والنزاهة والشفافية. بالطبع هناك الكثير من التجارب الجيدة في العالم مما يمكن الاستفادة منه. مثلاً، يمكن انتشال مليون أسرة، بمعدل خمسة ملايين نسمة، في الثلاث سنوات الأولى من هذا البرنامج، والعمل على تجويد البرنامج مع مرور الوقت. بهذه الطريقة، نكون أيضاً قد أعدنا توزيع الثروة توزيعاً عادلاً نسبياً.
إن أيدي الإخوان المسلمين لا تخفى في تدمير السودان، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. إذ عرف عهدهم كل موبقات الحكم، إلى درجة شنهم لحرب إبادة في دارفور ودفعهم بانفصال الجنوب، وإخراجهم القبلية من قمقمها وبثهم السلاح بين حركات المقاومة في الأقاليم البعيدة وتدميرهم للتعليم ومجانيته، والصحة وجودتها، وتقويضهم كل ما كان جميلاً في الحياة.
لقد عرفناهم طيلة ثلاثين سنة.. عرفنا سلوكهم، اكتشفنا نفاقهم، فهمنا نزواتهم التي لا ترتوي أبداً… لكن كل هذه المعرفة ظلت قاصرة عن الوصول بنا إلى بواعث اللاوعي التي جعلت أفعالهم تخرج عن المنطق وتبعد كثيراً عن خُلق السودانيين القويم المتوارث عبر الأجيال.
نعم، كان الإسلامويون سبباً في كل مشاكلنا. وحتى يتسنى لنا بناء سودان جديد، تسوده قيم الحرية والسلام والعدل، فلا بد لنا من استئصالهم تماماً من حياتنا العامة، وهدم كل ما زعموا أنهم قد وضعوه أساساً لحيواتنا. وقد كان هذا الشعب عبقرياً عندما صدح في مظاهراته بأن «كل كوز ندوسو دوس»، وقد ذهب في ذلك مذهب الشاعر العربي إذ قال: لو يشربون دمي لم يُرو شاربهم …. ولا دماؤهم للغيظ ترويني