بسط الله لنا وللقارئ عمرًا أدخلنا في الألفية الميلادية الثالثة. وبحمد الله. وقد نبه هول نهاية العام والقرن والألفية من هم في سني أو أكبر إلى فداحة مرِّ السنين. وكان قد ثار حديث في الصحف عن العمر والسياسة والجدوى في أعقاب خلاف القصر والمنشية. كما اتصل حوار آخر عن فعل العمر وهل يزيد المرء ضلالاً أم رشداً. واسترجع دكتور البوني بيت الشاعر العباسي عن العمر والحب في قصيدته العجيبة ” عهد جيرون “. واشترك في فقه العمر الأديب الأريب مصطفى محمد عبد الفتاح الذي أدين له بفضل ولعي بما أسميته “علم اجتماع استرذال العمر” حين علقت على كلمةٍ له في سبعينات القرن المنصرم عن جيل حركة مؤتمر الخريجين. وقد نشرت تلك الكلمة في كتابي “عبير الأمكنة” الصادر في 1988.
لعل أكثر مواردنا إهداراً هي العمر كمستودع للرؤية والخبرة والقيادة. وخسارتنا فيه أكثر من إهدار المال العام أو الدم العام. فاضطراب السياسة هزَّأ بالعمر بالتطهير والإحالة والفصل مما زلزل استقرار الصفوة الحاكمة وغير الحاكمة بالذات. فحين روَّعت السياسة أمن هذه الفئة أخذت “تتطلش” من وظيفة إلى أخرى، ومن أخرى إلى هجرة، وتسرب العمر من بين يديها وهي في هذه الملطشة التي جعلت من العمر زفة لا وقار أو حكمة فيه.
فقدنا ثروتين اثنتين حين أسقطنا دلالة العمر الذي لم تكبر به العقول. الثروة الأولى هي أنه لم يعُد بوسع العمر أن يشتبك مع ماضيه مقوِّماً للخطأ، أو متيقناً من الصواب مما ينتفع به الجيل الطالع بصراً وخلقاً. وإعادة النظر في حياة المرء نعمة كبيرة. وقد قرأت لكاتب أعاد النظر في موقفٍ له قديم وضال. وقد خلص إلى أنه ليس هناك ما يَستجمع ويَشحذ طاقة الذهن للتحري والبحث في أمرٍ ما أكثر من اكتشافك أنك أخطأت فيه فيما مضى.
أما الثروة الثانية، التي تسربت منا بفضل ازدراء العمر (وهي تفريع من الثروة الأولى) فهي أن معمرينا تورطوا في الحاضر يعيشون رزق اليوم الفكري والروحي باليوم. وبعبارة أخرى فهم لم ينعموا بتحدي العمر الذي قال عنه الشاعر الغربي ت. س. إليوت إنه كلما تقدم بنا أصبح العالم أكثر غرابة في ناظرينا، وأصبحت أنماطه أكثر تعقيداً. فتورطنا في الحاضر حال بيننا وبين أن ينمي الجيل المعمر الماضي كماضٍ، وكتاريخ، وكثروة روحية وحكمية غراء. وقد جاء عند كاتب ألمعي أن الناس الذين يتعلمون لمستقبل أفضل إنما هم في الواقع عشاق عظام للماضي. فالماضي في نظر هذا الكاتب مستدير كامل، وذو استعداد فطري لإثارتنا واستفزازنا، والإساءة إلينا. فهو الذي يغرينا بتحطيمه كما أنه يستفزنا لتزيينه وتحسينه. وواصل الكاتب القول إن السبب الأول والأخير الذي يَطلب لأجله الناس أن يكونوا سادة المستقبل هو أن يغيِّروا من ماضيهم الآسر الكامل.
نبه الدكتور البوني في عموده البصير الى منزلة العمر في المجتمع ” القبلي”
التقليدي. وكنت قرأت عن جماعة في أمريكا اللاتينية تسمى جيل العجائز فيها بـ “جيل الصدى” وتقصد أنها الجماعة المعمرة التي رسالتها في المجتمع أن ترد وقائع الحاضر إلى شبيه، أو مثيل لها في الماضي. ولذا ينشأ الناشئة على هذا الجدل الخصيب بين الماضي والحاضر، فلا يستبد بهم الحاضر ولا يروعهم الماضي، ويكونون بين ذلك قواماً: مبدعين وهميمين ومؤثرين.
يكبر الجيل عندنا بغير هذه الألفة مع الماضي لأنه أسير نزوة الحاضر وإغراءاته الجسام. ولذا يعيش الجيل اللاحق في مسغبة الروح والفكر والتاريخ. فالمستقبل الذي يرنو إليه الجيل الحدث لا ينبني على الصدى: على جدل الماضي والحاضر.
IbrahimA@missouri.edu