صدرت قبل مدة قصيرة هذه المجموعة القصصية- ناقشها الشهر الماضي في جلسة نقدية بأم درمان الأستاذ عزالدين ميرغني، الدكتور مصطفى الصاوي والأستاذ صديق الحلو. كما ناقشها نادي الكتاب السبت الماضي عبر الزووم من الخليج وأوربا الغربية وأمريكا.
تتكون المجموعة من ثلاثة عشر قصة . مايميز قصص هذه المجموعة-والقاسم المشترك -بينها، هي أنها مكتوبة بلغة شاعرية إنزياحية مكثّفة.. بليغة ساحرة. وهذا ما يميز هذا الطبيب الجميل من بين سائر السرديين الجدد، فاللغة قد غدت أضعف حلقات الكتابة السردية في الآونة الأخيرة . أمّا في هذه المجموعة فهي لغة جميلة بغير تنطّع أو تقعُّر تنساب كما الموسيقى. فهو يبدع في استعمال الأساليب البلاغية من مجاز وكناية وأستعارة وتشبيه . ولكي لا نلقى القول على عواهنه، أدلل على ما اقول بهذا المقتطف من قصة الطين والدعاش :
“تتربصه كما يتربص الضبع إحدى فرائسه” ..
“وتواطأت ذاكرته مع مخاوفه الخبيئة، فإستدعت ما أعتاده من نهايات خاسرة”..
“جالت بذهنه المغتم، أطياف من معاركه الحياتية التي انتهت جلها بخيبات مدوية ” .. هذه اللوحة تذكرني بوصف الطاووس للإمام علي ابن أبي طالب…وهي أجمل نثر فنى أدبي عربي. يقول الإمام علي عن ريش الطاووس : ( صفرة عسجدية وحمرة ياقوتية وخضرة زبرجدية) . و يقول الناقد محمود محمد مدني بأن الرواية لغة وأيضا القصة. وفي هذه المجموعة تتجلى براعة د. محمد المصطفى رغم أنه طبيب؛ فكانت اللغة الجافة التقريرية العلمية أقرب إلى قاموسه. ولكنه يتجلى كأديب يمتلك ناصية البيان فاضاف لها بريقًا و ألقًا و وميضًا لا يوجد في معظم المجموعات القصصية. فإذا حاولنا أن نسبر غور أونعجم عود قصّة “الطين والدعاش” نجدها تمثل صراع الحياة وتقلباتها وتفلتاتها وغدرها وعبوسها وغموضها وعبثها بالفرد والجماعة. فمهمة الأدب التفسير.. والفلسفة التغيير ، ولعلم الإجتماع التبئير. هنا الكاتب يأخذ شيئا من هذا و تارة أخرى من ذاك بذكاء لايلمحه الشخص العادي ، وهنا تتجلى عبقرية الفن.
والد محمدو غدا غنيًا بسبب المانجو في مريدي حينما حبّب له صديقه حسن الضاوي العمل معه في تجارة المانجو .. استجاب وترك وظيفة المراسلة بالبريد وحينما أثرى انحرف لسفاح وخمر وقمار. عضّهناب الدهر وغدر به فسقم كل ثروته انفاقها في العلاج ببريطانيا. ولده عثمان الضابط أعدم بتهمة انقلاب، ماتت الرضية جابر زوجته. افلس و عاد للمربع الأول كمراسلة، الدهر يومان يومًا لك ويومًا عليك. .. محمدو تسلق الإبداع الكتابي فاخفق في أن يكون كاتبًا كبيرًا. شرع يبيع انتاجه ليعيش بائسًا يائسا . اوصدت الصحافة أبوابها أمامه. ثيابه رثةَ مهلهلة نكرة مغمور . طفق يتكسب بالكتابه يأخد من المراهقين مالاً مقابل الخطابات الغرامية.. لم يكمل تعليمه .. ظل محزونًا مأزومًا كالذي يتخبطه الشيطان من المس إلى أن صدمته سيارة فاودت بحياته. حياة محمدو أشبه بحياة بهنس التشكيلي والروائي الذي قتله البردجوار مسجد مصري.
حرفيّة محمد مصطفى جعلته يتعامل مع هذا النص الثرى بذكاء بحيث لا يصل لمرافئ النوفيلا ولا لسواحل الرواية .. معلومات مدوزنة موزونة بميزان الذهب لتظل القصة قصيرة بكل ما تحمل خصائصها الفنيّة من تماسك و وحدة الإنطباع والتكثيف و وحدة الحدث. يقول أنطون تشيخوف : “أجمل القصص القصيرة ما كان محذوف المقدمات” . فمثلاً لو بدأت هذه القصة ب ( إستفاق محمد و على طنين ذبابة لئيمة وهيتغزو حدقات عينيه) هنا نلج للحدث المثير مباشرة.. كانت البداية في القصة تقول: (كدأبه منذ بدء الخليقةلملم الليل أطرافه).
عموماً مجموعة قصصية رائعة مقنعة.. ومشبّعة بالقيم الابستمولوجية والانطولوجية .. َمثيرة ومشوّقة ومحركة للاحاسيس والمشاعر ليس فيها ترهل أو ثرثرة ولا إسفاف ولا ابتذال . لاتوجد مباشرة كما زعم البعض ولا يوجد تدخل.. الأحداث تنمو على نار هادئة.
دكتور محمد المصطفى يمثل مشروع أديب كبير فهو خصب الخيال مثقف متمكْن من اللغة ومن تقنيات السرد ثم كطبيب إختصاصي بالمملكة المتحدة (ميسور الحال.. للطباعة) . مؤكد بأنه روائي القدرات والملكات فهي ظاهرة في أسلوبه – أبرز من أي جنس أدبي آخر.فهو أيضا مترجم عظيم.. وكاتب مقال كبير ومتبحر في علم التاريخ، موثّق ومدقّق، إذًا فنحن على موعد مع كوكب دُرِّيّ سيشرّف الوطن كما فعل الطيب صالح في المملكة المتحدة.
zamanaldonia@gmail.com