إن السلمية التي أبداها الشعب السوداني في مظاهراته ضد الإنقاذ قد تأكد أنها السلاح الأقوى في إسقاط امبراطورية الإخوان المسلمين الشريرة وتركها في العراء جيفة تخطفها النسور. بتلك السلمية، أثبت الشعب السوداني أنه عبقري في مناهضته للظلم والطغيان، إذ كان طريق المقاومة العنيفة سالكاً ومطروقاً، لكن رغم ذلك اختار السودانيون السكة غير المطروقة: أي السلمية، لأنه يدرك مغبة العنف، كما أنه على مثل اليقين من أن القابضين على زمام الأمور يتمنونها عنيفة يستطيعون من خلالها أن يتصيدون الناس في الشوارع بترسانة لا ينفد معينها من عتاد وذخيرة.
وبعد الانقلاب العسكري الغادر في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، استمر الحراك الثوري أشد شكيمة. وظل الشارع مستمسكاً بسلميته المعلنة التي أذهلت الأعداء وأثارت حنقهم. خططوا كثيراً ودبروا طويلاً، وتيقنوا أن القضاء على الثورة يستلزم منهم كسر طوق المعارضة السلمية المحكم حول الانقلاب، والعمل على تشتيت أنظار الشارع وصرفه عن مظاهراته الهادرة ومتاريسه العالية وعزيمته التي لا تلين.
خرجوا من تخطيطهم وتدبيرهم بفكرة شيطانية تضرب الناس في مقتل. كان اختيارهم قد حسم. يجب تقويض الأمن وترويع الناس ليضطروا إلى الاستنجاد بالعسكر واللجوء إليهم ليعيدوا الأمن إلى سابق عهده. تناسوا تماماً أن الأمن يمثل صميم عملهم قبل الانقلاب وبعده.
من هنا جاءت فكرة تسعة طويلة. مهد الانقلابيون لفكرتهم بتراخٍ شديد في أجهزة الشرطة التي ظهر بين أفرادها مطالب نقابية تدعو الحكومة إلى توخي العدل في مستحقات أفراد الشرطة أسوةً بأفراد الأجهزة الأمنية الأخرى. وهي دعوى عادلة، لكنها في غير أوانها.
أما أعمال تسعة طويلة فهي حقيقة مؤلمة على خلفية واقع اقتصادي منهار وضنك عيش لا يطاق وبطالة واسعة بين الشباب وخاصة في أطراف المدن. وليس من العقل أن ننكر ما وصل إليه العالم جميعه من ربط بين الفقر المدقع وارتفاع معدل الجريمة العنيفة.
بانتشار ظاهرة تسعة طويلة والتوسع في عمليات النهب المسلح، مع استبسال السودانيين لحماية أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، يريد الانقلابيون إدخال البلد في فوضى تبرر لهم إحكام سيطرتهم على زمام الحكم وفرض العسكرية بديلاً عن المدنية المقترنة، في زعمهم، بالفوضى. بذلك يستغلون القيم الأخلاقية للشعب من نخوة وشجاعة واستماتة في الحق، مثلما استغل الكيزان يوماً الدين المستكن في وجدانهم وقالوا لهم جئنا لنطبق بينكم قيم السماء. وقد بدأ الناس الآن يثيرون تساؤلات حول المبررات الأخلاقية لقسوة الضرب بيد من حديد على عصابات تسعة طويلة. ومن حسن الحظ أن هذه التساؤلات تثار بعين مفتوحة على ضرورة التمسك بالسلمية واحترام أحكام القانون.
لقد كان الشعب ذكياً إذ اسقط الكيزان ونعت فكرهم البائس بأقبح الأوصاف وأكثرها رسوخاً في ذاكرته. ومثلما فعل مع الكيزان، سيفعل مع الانقلابيين. فهؤلاء وأولئك تخرجوا من نفس مدرسة المكر والفساد والظلم والطغيان. وسيكون مصيرهم جميعاً في أسفل مزبلة التاريخ، فبئس عقبى الدار!