قالتها الوالدة و هي ترش على ملابسنا الجديدة للعيد و هي من البوبلين الملون .
هذه العبارة عميقة قد يوفيها حقها من له حظا اكبر في الفقه .
نعال العشر لا تعيش سوى سويعات، هل تتمنى اماً لفلذات كبدها عمرا قصيرا ؟
كلا ..
كم وددت ان اكون متبحرا في الفقه و متعمقا في تفسير القدر و ربطه بايات قرآنية و احاديث شريفة و قصص الصحابة و الانبياء داعمة لفهمي الحنفي ايضا و الذي هو وليد التأمل بعيدا عن التأويل .
لكن ما تبادر الى ذهني انه الايمان بالقضاء و القدر و ان الاعمار بيد الله فان اعطاك الله عمرا حتى تبلى نعال العشر فله الحمد و الثناء .
من شقة السرحان صحونا على صوت لقيمات الفينة و هي تسبح في حوض الزيت على الصاج .
يختلج هذا الصوت مع التمنيات و التبريكات بالعيد
” ان شاء الله كل سنة معيدين “
” يخضر ضراعكم و يزيدكم زايدا من الله “
هنا سرعان ما يتحسس كلا منا ملابسه الجديدة و شبط الشدة الملون .
هكذا بعد صلاة الفجر مباشرة يلف المعيدين على الجيران و الحيشان مفتوحة .
نلبس جلابية الدبلان او البوبلين لمن كان ميسورا، و نسابق الكبار للجيران .
حبوبة حليمة قامت من بمبرها و لسانها يلهج باطيب التمنيات لنا، مسحت على يدي من الكتف و حتى الكف، فاذا بشريط اسودا من الفحم على جلابيتي البوبلين البيجية المايلة الى الصفرة .
كما الاطفال تضجرت و لكن سرعان ما انفرجت اساريري و هي تفتح جيوبنا و تعبيها لنا بالكعك و الحلاوة ..
و كان الفحم اهون من زيت العك الدي احال جلاليبنا الزاهية الى خرتوية تشربت بسمن و زيت الكعك .
نهرع الى الشارع غير مباليين .
التجاني الضرير يعبر المسافة من قرية تلودي النوبة حتى ميدان الحرية لحضور صلاة العيد و كدلك كل جمعة . يقطع هذه المسافة التي لا تقل عن ١٥ كيلومتر مستخدما عصاته من شجر القنا و ليست الكترونية .
نتسابق كلا يريد ان يقدم هدية العيد له .
ينادينا جميعا باسمائنا اذ يميزنا من اصواتنا .
منا من يهديه قرشا او فريني او شلنق من كان ميسورا او تعريفة كلا حسب طاقته و قد كنت من ذوي التعريفة .
يستعد الناس للصلاة بميدان الحرية .
منا من يحمل بروش ابجوقيه و اخرين بروش الحريرة المزرقشة .
بينما يحمل اهل السوق لفافات ناعمة فاخرة من السجاد العجمي .
جميعنا مهللين مكبرين .
ترى شيخا يضع عقالا على رأسه لا يلبسه الا للعيدين كرمزية تميزه انه قد حج بيت الله الحرام
و حاجة تغطي و جهها بحلة خضراء على راسها تميزها بانها قد حجت البيت ايضا ..
ناخذ مواقعنا بين الصفوف المتراصة مهللة مكبرة و تختلج تهليلاتنا بنقارة الدينكا و الشلك و النوير الذين يشاركوننا و بعفوية فرحتنا بهذا العيد .
تصمت الطبول و يتناهى الى مسامعنا طبل النوبة المنبعث من ” الجو” من وسط الاندايات في تلودي
سبحانه ان جعل قبسا من نور يشع وسط عتمة . قد يدخل حلبة النوبة و هو يترنح من السكر و يبدأ الذكر الله الله الله
عسى ان يهديه الله و يقلع عن المريسة التي هي غداءً و سُكراً لبعض شعوب اهل المنطقة .
عندما تشنف اذاننا النَّوبة نعرف ان موعد الخطبة قد ازف .
تتوقف زفة النَّوبة و يترص الدراويش بثيابهم المزرقشة و طواقيهم المعكوفة الجوانب الى اعلى خلف الامام .
و تبدأ الخطبة . يأسرنا الامام علي القاضي رحمه الله بصوته الذي يدخل شغاف القلوب و يجبرنا ان نصغي و يعم صوته كل الحضور بلا مكبرات صوت .
عند انتهاء الخطبة يقوم الدراويش بخلق حلقة حول الامام لحمايته من شدة تدافع المصلين للسلام عليه .
ثم نبدأ بمعايدة بعضنا بعضا ..
كنا ننتظر بشغف لنهاية الخطبة ..حتى نقوم بتغطية ناس حينا و من بعدها” الفطور “تحت دوحة من شجرة الكوك عند سفح الجبل في نهاية حوش عمنا حمار المدينة والد كناني يقترن عندها كل اهل الحي . و يستعدون لاستقبال اهلنا من فريق القناية الدين ياخذون طريقهم مباشرة من ميدان الصلاة الى موقع الافطار .
توكل لنا مهمة جلب العناقريب و الفرشات من بروش سعف الدوم بانواعها و اشكالها .
كما نتولى مهمة ملئ الاباريق و حملها لغسل ايادي الضيوف عند بداية الافطار و عند النهاية .
شتى انواع العصايد من اجود انواع الذرة ” المدمرق “
تتباهى النساء بما يقدمن من ملاحات متنوعة .
تقلية و روب و اقداح ممسحة بالسمن ..
بعضا من الشيخات امهات البنات يقدمن تقلية لحم الزراف و الغزلان كما كانت تفعل خالتي رحمها الله .
ينفض سامر الضيوف الذين قد طافوا كل الحي قبل الجلوس للافطار ..
ثم نتفرغ نحن بعد تادية واجب الضيافة لفتح بعض الاقداح التي بقيت لنا من فائض مراسم الضيافة .
هنا نتفرغ للمعايدة و لعب البلي و بعضا منا يهرع لعمنا ميكايل لتاجير الدراجات ..
كانت الساعة بقرش و نصف الساعة بتعريفة .
ينتهي اليوم الاول بليلة مليئة بكل انواع الفنون ..
رقصات السبر و طقوسها ، كندا الميز و المردوع الكناني ، ناس البانجديد و ضربة العصا .
العاب القوة و كيف يرفع احدا صفيحة من الرمل باسنانه ..
و لا زالت ثلاثة طبولا تصدح
نقارة الدينكا و النوير و الشلك و البقارة رابعتهم ..
تغيب شمس اليوم الاول و نستعد لمعايدة اليوم الثاني بنفس جلابية العيد الوحيدة بجيوبها المتسخة بسمن الكعك فرحين غير مباليين .
نذهب للقناية للافطار تحت نيمة كبيرة يستقبلنا شيوخها بينما نحن نتسلق شجر الخروب بعد ان عيدنا على عماتنا و خالاتنا .
ثم تبدا رقصتنا المفضلة المردوع و تغيب الشمس فنعود لفريقنا ” ام جغينة” .
اما ثالث ايام العيد فهو يوم حلبة المصارعة بالميدان اذ يحتمع فيه فراس طاطا و طمطم و تسومي مع تلودي النوبة و طابولي و امدوال .
هكذا كان العيد تظاهرة إجتماعية تجمعنا رغم تبايننا الثقافي و الديني و العرقي ..
و كل عام و انتم بخير .
يعود العيد فان لم نعد نسال الله ان يجعلنا مرحومين لا محرومين من رضوانه علينا .
حسن ابراهيم حسين
الرياض في ٢/ مايو ٢٠٢٢ م