وأنا غارق في حديثي الهانئ مع الصبيه، (كاشيرة) البقالة، وهي من (فاس)، الما وراها ناس، وفي اللحظة التي بدأ الدم الأحمر، يصعد إلى وجنتيها، يفاجئني، هذا الفتى، من وراء ظهري، متسرباً خلسة، مصراً على زرع تحيته بصوت جهوري، ولما تتعد قدمه اليمنى العتبة، وبلهجة اولاد الريف، صاح، يقض مضجع هنائي:
مسا الخير يا (حق).
ولم يكن ثمة أحد، ذكر بالغ، في المكان غيري، والفتاة الكاشيرة، ثم احسست به، ماضياً في عزم وثقة مثل قذيفة، واختفى بين البضائع، قبل أن أتمكن من الرد عليه، ياخي تحج في قرعة مقدودة.
وانتبهت إلى ضحك الكاشيرة، والضحك بلا عجب، اول مفسدة للغرام، تضحك (الكاشيرة)، وتغيب في دلالها برهة، لاتبذل جهداً في لم شمل عواطفي، حتى ولو بعبارة مجاملة
إنت لسه شباب، بالزاف، بدري من عمرك!
ثم أن الهواجس تملكتني، وأمسك التوجس بخناقي، فنظرت نفسي، في سطح زجاج المدخل، ومن وراءه تقف في حرانها التاكسيات، والأوبرات، والشاحنات صفت على أعقابها، وماء محتقن في بركة، ورجل يذرع الساحة طولا وعرضاً، ويستدير بحركة مسرحية، كل لحظة يرد فيها، على تساؤلات إمرأته، يشع كذباً وممالأة
اقسم بالله دي بت خالتي كانت، جات لوتري، ودوها منسوتا.
رأيت الجينز (الجورداش) البالغ الزرقة، وقميصي (إيدي باورز)، وحذائي (نايكي)، وفي داخل هذا النظام، حدقت أبحث عن (الحاج)، الذي عناه الفتى المصري، أشهد جسمي ممطوطاً، ومدوراً مثل كرة، و(دستورتد)، لعنت الزجاج، الذي هذا شأنه، حين تزيد فيه كمية الرمل، ويقل الزئبق، كنت أقف معوجاً، برسم فرشاة ألوان مائية، تمضي في (زقزاق)، وهذا شانها، لو صنعت من البلاستيك، عوضاً عن ذنب المهر، وعيوني أربعة، وشاربي فوق أنفي، قلت لنفسي مطمئناً، لعله رأى انعكاس صورتي فاختلطت عليه الرؤى، أو أن عبارته تلك، سبيل إحترام الناس للناس في مصر. وتهيأ لى (الحق) المصري، كما شهدته في المسلسلات، رجل ذو لحية بيضاء كثة، وشوارب ينام عليها الصقر نومة القيلولة، ويبيض فيها النعام، ولحيتي أنا، سكسوكة و لعلها (من أجل أبنائي)، (سولت اند بيبر) كما يقول الأمريكان، وشاربي ليس (ميزان عجلة)، ولا تلحظ فيه لمسة الصبغة، مالم تدقق النظر،أو أنه اعتاد على إطلاقها بعفوية، مثلما نقول نحن في السودان، يا عمك و ياحبة و يا فردة، دون عناية، غير خطب إنتباه عزو، ويا عب كيف، دون شكوي يقدمها السامع إلى أمنستي انترناشونال. ورغماً عن تعودي على كلمة (يا خال)، وبهجتي بسماعها، إلا أن كلمة (ياعم)، تقلقل عافيتي، فهي متاحة مباحة للعم ولغير العم، وعابري السبيل، والمؤلفة قلوبهم، وينادى بها (هواة الإلتصاق) في البص العام المزدحم، ياعم زح شوية كده لورا المرا دي اتضايقت، قبيل أن تلحق العم عاصفة من البراطيش، وعمك تنقو، الذي لاتجد له شبيهاً بين أعمامك، الأحياء منهم والأموات، وعم بطوط، وعمك المبهم (داك)، تقول أمي دائماً (العم ما حنين)، فما الذي ستقوله عن (الحق)؟
تعودت الخوؤولة بالميلاد، منذ أن تفتحت عيوني على الدنيا، وجدتني خالاً لأبناء أختي غير الشقيقة، ثم تعممت في مقبل الأيام، و(تجددت) بالتحسس، حين ولد لأخوتي أحفاداً، ودون علمي فإنني تهيأت إلى رتبة (الحق)، بدعوى الفتى المصري الفذ.
في مرآة بيتي، تحاشيت النظروالتدقيق، فمرآتي صادقة، من ذوات الزئبق المضبوط وحبيبات الفضة الأصلية، وارد بروكسل، قلت لنفسي (مش ممكن كلام السودانيين في انو المصريين كضابين يطلع صح) ؟. و لكنني تذكرت فجأة، قول صديقتي السوداني، التي التقيتها، بعد أن طال عهد اللقاء، والتي ناغمتني بكل الأشواق
(مالك اتضقلمت كده يا ابو السرة؟)
فقلت لنفسي (هااا، لعل الضقلمة صنو للحجوجية)
والتمعت فوق رأسي (لمبة عبقرينو)، ولكنني عدت، فقلت لنفسي لا ثم لا، ذلك لأن الحجاج الذين عرفتهم، شداد غلاظ، ذوي رقاب مسندة، إن أردت أن تبلغهم أمراً، فلا مناص من أن تدخل (قدومك) في غابة الأذن اليمنى، محتملاً شكات شعيراتها العربيدة، لتصيح بملء رئتيك (ياحاج المغرب أذن)، وتكون عيون الحاج في تلك اللحظة بالذات، مسمرة في خيال (توب) وارد بيت الجيران، يسألك وهو يغالب نوبة الربو، دي مني دي؟، فتجيبه، دي (صفية) جات من عطبرة نازلة عند ناس عزو، فيقول لك، امشي جيبا جاي النعزم ليها، يا حاج المغرب غريب، فيستند بيد على الركبة اليمنى، ويد مثل الكماشة على ذراعك حتى (يملخها)، ثم .. ياسيدي الحسن، واستراحة تكفي للتهيؤ لإستيعاب فكرة النهوض، نصف قفزة وهو على الكرسي، ثم الفتاة وهي في طريقها إلى باب الحوش، ماشاء الله تبارك الله، حُقّتِي وين؟، تحت المخدة يا حاج، اللهم آت محمداً الوسيلة و الفضيلة وابعثه المقام المحموهوووووووو..تثاؤب، البت دي مالا مرقت سريع سريع كدي، قوليها اقعدي احضري نشرة الأخبار معانا!
تحاشيت النظر في المرآة، فأهل الفيزياء والفنون يزعمون، بأن الإنسان يرى وجهه مقلوباً طوال حياته، من على سطوح المرايا، وحتي عابد نفسه (نرسيس) رأى إنعكاس صورته على ماء النهر، فساهر بالنساء إلى يومنا هذا، وكتب شعراً بائساً في الثورة السودانية.
وقالوا بأن العقل البشري يعمل دون أمر مباشر منا، ولكن تحت رعاية من مشاعرنا، بحذف وتعديل، كل ما لانود رؤيته في خلقنا، وما لا نستسيغه، التجاعيد النخل والبهق والرايش والواغش وحب الشباب، وكلما لا تستحسنه الحسان، فلهن نتزيا ونتأنق، ونتحنكش، ونلتحق بالجنجويد إن دعا الأمر.
قلت أخرج من بيتي لعلي واجد عزاءً في اي من أبناء دفعتي، فالحج وسط الجماعة عرس، قصدت في المساء مقهىً يتسامرون فيه، وحين انعقد الرهط، إنساق انسهم دون وعي، إلى قضايا إفساد المذي للوضوء، وكيف أن (ثعلبة) سأل الرسول عن شئ لا أذكر ماهو، فقال له الرسول (كف عن ذلك يا ثعلبة)، أو شئ من هذا القبيل، وتفاكروا في شأن الحلبة والسمسم الولد، والزبيب وفوائد الغرنجال و الزعفران، وذكروا الباءة ووصفوا (الخنتيلة)، وتحدثوا عن فلان وقالوا (ولد صغير ساكت، لسة ماقفل خمسة وتلاتين)، فقلت في سري، يا إلهي كيف تحولت جملة (راجل كببير في التلاتينات)، إلى ولد صغير، ثم جاء دور الدومينو الشهير (بالضمنة)، كع … كع … كع… غيرو الملاية، ما تغيرو الملاية، جيب سفة، تمباكك سمح، مطرتو براي في البيت، شيرين دي منو كمان، وردي بكون زعل من الحلنقي، قلت ليك شيرين دي منو، دي نضارتك ولا نضارتي؟، ما بتاكل لحم؟؟ مالك برمائي؟ الكرانبيري جوس أحسن شي للبروستاتا، دي حاجة معروفة، والعجب البضنجان المحمر، ثم إنني شككت في دواخلي بأن كل منهم يحمل مطوة (أبوغماز)، فهتفت:جيلي أنا.
في مرآة الحمام المجاور، نظرت وجهي فلم أجد أثراً (للحق)، فعاودني الإطمئنان الكاذب، قررت حينها مواجهة الفتى المصري الجبار، سأقول له (بلاش حكاية الحق دي، كول مي بيق دادي)، ثم تذكرت أن إبني البكر في الجامعة، ولكنني طمأنت نفسي بأنني تعجلت و(عرست بدري)، ألم يكن صلاح بن البادية جداً، وهو لم يتعد الثالثة و الثلاثين، و إبراهيم عوض تزوج فوق الأربعين، وصلاح مصطفي يبحث عن عروسة (أسمح منو) إلى يومنا هذا؟
ثم خطر أمر الدفعة ببالي، ففي زماننا كان بإمكانك أن (ترقع) الشهادة، بعد أن تعمل في التدريس لمدة قرن، وتعود إلى جلوس إمتحان الشهادة، فتنجح وتدخل الجامعة في عمر الحوت، و تتخرج في عمر نوح عليه السلام، وتحسب مع ذلك دفعه، تقف في يوم التخريج جنبا إلى جنب (سوسو وهيثم و كموش)، بل وبامكانك القول صادقاً في دعواك “سلوى كانت قدامنا”، وهي، اي سلوى، في حساب المقارنة العادلة، تطابق قول المغني “ربي ما تحرم بيت من الأطفال”، وقد تكون قد شلتها في صفحتك وهي بعد غريرة، فقلت لنفسي (الجماعة ديل قطع شك اكبر مني)، فانحسر أجر حجتي إلى (عمرة)مسا الخير يا معتمر!
أتم الحاج صلاته، وهو غير مطمئن، ودعا جهراً، فقال بلسان مبين
“اللهم أحفظ لى نظري وظكري”
فقلت لنفسي، اللهم أعفنا من أرذل العمر.
أذهب إلى الجيم سادتي، كل يوم، لم أقصر في حق نفسي، فاغترفت من خيرات (الاسبورتس اثوريتي)، دون إشفاق، كل انواع ماصّات العرق، الأحذية المطاطية، حاسبات النبض، داعمات الظهر، والمسبحة الالكترونية، الفايتمينات والمعادن، الأستيرويد وحتى موانع الحمل، ولكنني أتدرب بعيني فقط، واحد نين واحد نين، أرفع الأثقال والأحمال، واضيف أوزاناً جديدة كل يوم، يكفيني رياضة، مشوار الذهاب والإياب من وإلى الجيم، يصحبني فيه على الموبايل، حديث مطول مع صديق ما في مكان ما، في هذه القرية التي إسمها العالم. وقد اسعد برؤية وجهه وجهها، فيري لو ريسوليوشن، مثل صورة (الحق) على سطح زجاج المداخل، فيطمئنني
والله يا التاج محافظ، كانو مقرشنك ولا شنو؟
فاتمتم في سري، الله اكبر عليك
وصف لى صديقي وهو طبيب، أعراض أزمة متصف العمر، فقلت له (كان كده بتبدا معانا نحنا السودانيين من المدرسة الأولية)، ليتها تأت يا صديقي، على الأقل سأتخذها ذريعة لشراء (البورش) أو (الليتل ريد كورفيت) التي ذكرها (برينس) في أغنيته، و لكن ذلك لا يجوز (للحق) عمله، فصاحب الدعوة الإسلامية قبض عليه بوليس نيويورك في حالة (ريكليس درايفينق)، سأله عن عمله، فأجابه بأنه داعية إسلامي، إبتسم الشرطي قائلاً (كان دعوتك زي سواقتك، منو العوض وعليه العوض).
حق بتاع فنيلتك، حق في عينك.
وفي سيارتي و بأقصي طاقة الصوت، غنيت مع (تيدي بندرقراس)
Life is a song worth singing
May 5th