يؤسس هذا المقال لاستكشاف الحالة التي يمر بها السودان الان ضمن حركة التاريخ الانسانى، معتمدا على معايير علم الاجتماع السياسي في تحديد أسس الدولة الفاشلة والرخوة وحدود التقاطع والالتقاء بين المفهومين ومدى انطباقهما على الحالة السودانية، لاسيما بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي وضع البلاد على حواف الانهيار الشامل للدولة السودانية.
ظهر مصطلح الدولة الفاشلة على يد الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي وذلك في مؤلفه عن الدولة الفاشلة:إساءة استخدام القوة والتعدي على الديمقراطية الذي تناول فيه معايير الدولة الفاشلة ومن ثم سارت به منصات الاعلام كمصطلح برغم الاختلافات العديدة حوله، وحول تأسيسه النظري.
منذ العام 2005 يصدر مؤشر سنوي عن الدولة الفاشلة من صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي الأمريكية، ولاحقا تغير مسماه الي الدول الهشة او الرخوة حيث صدرت النسخة الأولى منه 2017، ويعتمد عدد من المؤشرات السياسية والاقتصادية والأمنية، تقوم على فكرة ان الدولة الفاشلة هي دولة ذات حكومة ضعيفة لاتملك السيطرة على جزء كبير من اراضيها.
ثمة سؤال مفتاحى هل يمكن أن تكون الدولة الفاشلة صناعة بيد قوي الشر والتآمر الدولي؟هذا أمر وارد قطعا لاسيما أن هنالك استراتيجيات دولية صممت على خلق دول صغيرة متناحرة على أسس طايفية او دينية، وعلى تقسيم المقسم وعدم إتاحة الفرصة لقيام اي وحدات كبري وتكتلات اقتصادية وسياسية منذ مشروع روجزر في السبعينات على مستوى المنطقة العربية الي مشروع الشرق الأوسط الجديد.
يري الدكتور محمد رمضان ان مفهوم الدولة الضعيفة او الفاشلة يستند في جوهره الي طبيعة هيكلتها، والي ضرورة ضبط المفاهيم المتعلقة بادارة الدولة بالكفاءة والشرعية.
من الأسباب التي تؤدي إلى فشل الدولة:
-عدم وجود حقوق امتلاك فردية للمواطن.
-استغلال القوى البشرية لصالح الحكومة.
-عدم الإنصاف في الفرص والخدمات.
-منح مجموعة من النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية امتيازات ومكتسبات غير شرعية تجعلهم في وضع تنافسي افضل.
-الطمع في السيطرة على الموارد من قبل النخبة وادوات النفوذ.
-الغياب التام لسلطة القانون وعدم فعالية الحكومة وقيام مجموعات محلية(قبايل، مليشيات) بالسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي والأمني.
-عدم المساواة في الخدمات العامة وانعدامها.
-الصراعات بين القوى السياسية والاجتماعية على الموارد.
ان المتابع لمسيرة تطور الدولة السودانية منذ الاستقلال وحتى الآن يلحظ تمثل هذه الأسباب ويكاد يلمسها لمس اليد، لاسيما مع بروز وتفشي ظواهر الرشوة والسمسرة والفساد الإداري وانتشار السوق السوداء والبيرقراطية واستغلال الموقع
وعدم الإخلاص في العمل وتفشي المحسوبية.
يري دكتور عارف بن حمد أن هنالك 12 مؤشرا لقياس حدة التهديدات السياسية والأمنية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية التي تواجهها الدول والتي تتسبب في تصدعها واخفاقها في وظايفها الأساسية.
يعتبر التركيز على الأمن وغياب التنمية، وفقدان شرعية اتخاذ القرار، والحد عن توفير الحد المعقول من الخدمات من مؤشرات انهيار الدولة.اليس هذا هو الحال الماثل الان؟
الدولة الهشة هي الدولة التي تخفق في القيام بوظايفها الأساسية بشكل جزيي او كلي وتعاني من أزمات داخلية سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية وتعاني من حروب وصراعات مذهبية ودينية واثنية مع وجود تنظيمات مسلحة تنافس الدولة على شرعية الحكم وفي حالة السودان الحالية تمثل الحركات المسلحة بتحالفها مع قادة الجيش والدعم السريع أداة من أدوات تكريس سلطة الانقلاب وفرملة اتجاه التحول الديمقراطي ودولة القانون والمؤسسات ، او تدخلات إقليمية ودولية وينخرها الفساد المالي والإداري والسياسي، وفي إطار تصنيف الدول الهشة على هذا النحو جاء السودان في المرتبة الرابعة ضمن تصنيف عام 2021.
الدولة الرخوة ظهرت كمصطلح على يد عالم الاقتصاد والاجتماع السياسي السويدي جنار ميردال عام 1970 يري وفق نظريته الدولة الرخوة الدولة التي تصدر القوانين ولاتطبقها، لااحد يحترم القانون، الكبار لايبالون به لان لديهم من المال والسلطة مايحميهم منه، الصغار يتلقون الرشاوي لنفي البعد عنه، والفقراء واقعون تحت دايرة القمع والتهم.
يري ميردال نفسه أن الطبقة الحاكمة في ظل الدولة الرخوة تجمع من أسباب القوة ماتستطيع به فرض ارادتها علي ساير طيقات المجتمع.
الدولة الرخوة تمتلك مؤسسات بلااثر ونخبة فاسدة وفوارق اجتماعية كبيرة.
الدولة الفاشلة او الهشة او الرخوة ليس بالضرورة أن تجتمع فيها كل المؤشرات المشار اليها، بل يكفي انطباق بعضها بشكل يحدد نسبة الفشل وارتباطه بمؤشرات الانهيار الكلى.
ان إسقاط المعايير المشار اليها في حالة الدولة السودانية بعد انقلاب 25/10 الذي يعد امتدادا طبيعيا لمرحلة الانهيار السابقة في ظل حكم البشير، تؤكده الحقايق على الأرض التي تقول:
-عمل الانقلاب على هزيمة مشروع الانتقال الديمقراطي بتمزيق الوثيقة الدستورية وخوف قيادته من المحاسبة المبنية على تنفيذ الوثيقة الدستورية بتوقيتاتها.
-ضعف دور الدولة المركزية الباين إزاء مواجهة الازمة السياسيةو الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بتلابيب البلاد.
-النزاعات المكتومة بين أطراف داعمي الانقلاب عندما تتعارض المصالح، لاسيما بين الأطراف العسكرية.
-الصراع على الموارد والثروات الطبيعية(الذهب والأرض) في إقليم دارفور وغيره ومحاولات تغيير التركيبة السكانية من خلال ارتباط الصراع الداخلي بأطراف من خارج الحدود ذات صلة بالحركات المسلحة في دارفور.
-عدم وجود حكومة في ظل غياب الشرعية الدستورية الحاكمة، واللهث المحموم من سلطة الانقلاب بنسف كل مكتسبات ثورة ديسمبر خصوصا قرارات لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال تجعل الصراع مع الحركة الجماهيرية يقوي ويتعاظم ويعود لمربع ماقبل 12/4/2019.
-حالة التفلت الأمني بالعاصمة تشير الي وضع ينذر بسقوط الدولة وغياب هيبتها ودورها مع تعقيدات الوضع المعيشي الكارثية.
وعدم قدرة القوات الأمنية والحركات المسلحة علي ضبط عضويتها والسيطرة عليها فتصبح البندقية أداة للتكسب والعيش.
-المحاولات المستميتة من الدعم السريع لبناء زراع سياسي اجتماعي قوامه القبيلة وشراء الولاءات ستشكل بذرة لصراع جديد اساسه دولة القبيلة.
-العزلة الدولية التي يعانيها الانقلاب وأطرافه ستفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية وربما تجعل البلاد عرضة للقرارات الدولية التي ستنال من سيادة البلاد ووحدة أرضها..
في التقدير انه اذا لم تدرك القوى السياسية و المدنية مسؤوليتها التاريخية في حشد إرادة شعب السودان ووحدة نفسها في جبهة شعبية واسعة لهزيمة الانقلاب واستعادة الثورة والتغيير والتحول المدني الديمقراطي ستصبح البلاد في منحنى الدولة الفاشلة والرخوة والهشة ولن يطول هذا الاحتمال كثيرا.