(ماتت أحاديثي والطُرف الأولى وزبلت ابتسامتي المتورّدة خلفَ أسوار قريتي القابعة في انتظار الربيع وإشراقات أزهار الفرح، وطافت عيدئذ حول ربوعنا أغنيات الحزن، دندنات الموت وأمنيات الغرق، تغنيها غربان صهباء؛ وجاء العيدُ، كالعادة، بخفيّ حنين، فلا وردٌ سنقطفه، ولا لحن سنعزفه ولا طرب يواسينا … ولا حتى رسائل الأحباب تأتينا ولا أحد يعزينا … فلنبكي مستقبلنا … حاضرنا وماضينا …) (محمد بدوي مصطفى)
ماذا حمل العيد لنا …؟!
كتبتُ في السنوات الماضية فيما كتبتُ، وسطّرت فيما سطّرت، الكثير الوفير من المقالات عن شهر رمضان وأعياد السكر (عيد الفطر بلسان الأتراك) وعن أعياد الأضحى وما أدراك ما أعياد الأضحى والذي لا يعرف أغلبنا من قصته في الأسافير إلا القليل، أقصد من كان القربان أو الذبيح: الأمّة العربية والإسلامية، إسماعيل أم اسحق …؟ لكن تلك قصة أخرى …!
كتبتُ يا سادتي عن أعيادنا الوطنية وتلك اللاوطنية على حد سواء، أعياد غدت مع سنيّ الإخونجية بمذاق الحنظل والزقوم، وصارت مع مرور الأيام والحقب، فارغة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ، لا لون لها ولا رائحة. حقيقة يمكن أن نصفها بأعياد الموات والأموات، أعياد امتطاء الإيوان بعد فوات الأوان، أعياد النكبات المريرة وأيّام النكسات العسيرة وسنيّ الانكسارات الغديرة، أعياد لا يحتفي بها إلى الجبابرة، العتاولة وبنو الجاه والسلطان من أشراف القوم مستجديّ النعم، ممن يكنزون الذهب والفضة. هي أعيادهم هم وليس في ساحتها مكان لشيخ، صبي، صبية أو امرأة من عامة الناس، وحدث ولا حرج. أعياد ذقون التملق من إخوان الشياطين، الذين نادوا وينادون إلى الآن في كل ملّة بنهضتهم الزائفة التي لم تكن البتّة وأكل على تاريخها القاتم الدهر وشرب. هي في الحقيقة ليس بنهضة كما نعمل، ولكن بالأحرى وقعة ولا يمكن أن نطلق عليها أيّ اسم آخر غير ذلك.
من جهة أخر، سعدت بقرارات المملكة العربية السعودية في تجريم هذه الجماعات الإخونجيّة التي لا تزال تنهش في لحم الأمم من أجل الوصول إلى أهدافها، بكل السبل والطرق، سواء بالحلال أم بالحرام، وبنهج: عليّ وعلى أعدائي. نعم، الآن صاروا في بلاد الحرمين حفاة عراة لا حول لهم ولا قوة. وصارت الآن الكلمة العليا للمحبة، لا الحقد، للأمان لا الحرب، للتكافل لا التغابن، للمؤاخاة لا للمعاداة. نعم، فطنت الدول جلّها الآن وليتها كانت قد علمت ما تواريه هذه الجماعات من سوءات للسلام العالميّ بأسره.
على أي حال، وبالرجوع إلى بيت المتنبئ، تساءلت في تلك المداخلات والمقالات مستعيرًا بيت أبو الطيب المتنبئ الشهير: “عيد بأيّ حال عدت يا عيد”، وطرحت من ثمّة السؤال الآتي: من كان يقصد أبو الطيب، نفسه أم غيره؟ أكان يعبّر عن لسان حاله أم لسان حال غيره؟ أقصد بالحديث ربعه أم ربوع الغرباء؟ على أيّة حال فإن هذه من العبارات أو بالأحرى من الأبيات الشعرية التي صارت جزءً لا يتجزأ من إرث العرب العالميّ وصرنا نحتفي بها وبه في كل عيد ونستذكر آهات الماضي وخلجات الصدور مع اختفاء البدور. من منّا لا يعرفها ومن منّا لم يستعملها ولو لمرّة واحدة في حياته. فصدمات العيد لا تحصى ولا تعد وأيّام العيد، صارت في الآونة الأخيرة، بلون الحزن وبكاء المزن وجفاء الناس والعين والأذن. وأبو الطيب كما نحن، عاش العيد بطعم الخيانة، وانسداد الطرق إلى برّ الأمان، فجاءت تباشير العيد منذرة بالهلع والخلع والفزع في سياق زمني وصفه هو بالعصيّ الأسيّ، لما صاحبت تلك الحقبة من خيانة سيّده ومولاه له.
بالنظر إلى بيت أبي الطيب، يمكن أن نقرأ أنّه يعبر عن حالة مأسوية ألمّت بها في غضون أيّام العيد وتسرد ما تمليه عليه خلجات نفسه ودندنات دخيلته، في زمن كان يغوص في أمواج الاضطرابات المذهبية، الحروب الطائفية، التي مزقت النسيج الاجتماعي للمجتمعات العربية والإسلاميّة شرّ ممزق، وصار العرب والمسلمين طرائق قددا، ومذاهب عددا، وجماعات مددا، يتناحرون بعضهم البعض على هوية المذهب ومن له الحق في كلمة الله العليا، قالها الحلاج، فقتل، وقالها كثيرون منهم ابن المقفع في أندلسه وقد طُوّق بطوق حمائمه البيضاء، دون ذنب كان قد جناه. هؤلاء يرفضون تعدد الأفكار، يخافون تعدد الثقافات، ينبزون تعدد الآراء ويحاربون تعدد الهويات، لا يرفضون بأيّ حال من الأحوال تعدد الزيجات من الحور العين. وهذا باختصار ماهية الإخونجية.
بعد السنوات ماذا حدث …؟!
دعونا نلقي نظرة فاحصة على المشهد العربي، بعد مسيرة طويلة في كتابة مقالات عن الأعياد التي لم تأت إلى الآن بأيّ خير يذكر ذلك منذ أن تفتحت أعيننا على الحياة فوق هذه المستديرة. دعونا نسأل ونتساءل: ألا تزال الأمّة العربية والإسلامية في كل بلدان العالم في حال يرثى له، وكأن أبو الطيب المتنبئ ببيت شعره ذاك يفسر حالها رغم اختلاف الأزمان والحقب والأحزان والنِسب. لنقل أنّ ألف سنة ونيّف تباعدنا عن زمن أبي الطيب، ولكنها في الحقيقة المعاشة بدواخلنا، وكأنها بضع أيّام، شهور أو ربما سنوات عجاف. يا ربي أكان أبو الطيب يعيش معنا؟ يشاركنا أحزاننا وأتراحنا، هل كافوره الإخشيديّ هو نفس كافورنا أو دعونا ننطقها بصيغة الجمع “كوافيرنا” في الشرق والغرب؟ والكوافير على أشكالها تقع … والمقصود بالكوافير (إذا رجعنا إلى الجزر الثلاثي فسوف نجد: ك-ف-ر)، وهم هنا الإخوان وأعجب للاسم الذي لا يحمل أيّة شيمة تدل على الأخوّة والمحبة. إخوان بلا أخوّة.
بالرجوع إلى عيديّة أبي الطيب نقول، لا يزال السياق العربي الإسلامي في كل بقعة من بقاع الأرض على حاله التي تركه عليها أبو الطيب المتنبئ، نعم، حقبة تزيد عن الألف سنة. ما الفرق بين زمنه وزمننا؟ الأجواء مثلها مثل تلك الحقبة تختنق بأدران الطائفية، وإحن المذهبية، البؤس، الفقر، التخلف العقلي وغيره، الرعب، انسداد الآفاق، الحروب في كل مكان ومما زاد الطين بلّة حرب الروس وحروب أخرى ضروس تحيط بنا من كل صوب وحدب. الخطر في إيران وبلبلة الأجواء في الدول العربية، خطر التشيّع الثوري الإيراني على دول المنطقة، لبنان، سوريا، البحرين اليمن، وحتى في السودان ودول أفريقيا. من يسافر إلى هناك يجد الطلاب الأفارقة من آسيا يستجلبون بالمنح الدراسية لسنوات طوال. وكل واحد منهم سيكون بالطبع سفيرًا لهذه النعرات الشيعيّة الثورية والطائفية التي تبثها المذهبية الخمينيّة في كل أنحاء العالم. على عكس الصين، فهي تسير على نهج الاستعمار أو لنقل الاستعباد الاقتصادي وإيران تسير بطريقة ذكية لأبعد الحدود، استخدمتها الدول المستعمرة خلال استعمارها لدول العالم الثالث بالقارة الأفريقية وأمريكا اللاتينية: عبر الإرساليات والبعثات التبشيرية من المصب وإلى المنبع والعكس.
عيد يحتفي به الشيعة والسنّة على حد سواء:
عاش أبو الطيب المتنبئ حتى النصف الأول من القرن الرابع الهجري وعاصر في تلك الحقبة أحداثًا جسامًا من الاحتراب والاقتتال والاستلاب الطائفي البغيض بين الشيعة والسنة. ولقد شابت تلك الحقبة من الروع والهدم والرعب حدودًا امتدت فيها إلى تركيب مشاهد حيّة، تمثل حربيّ الجمل وصفين، من أجل إثارة الفتن وبث الضغائن والمحن بين الفئتين، وكانت الحال كما هي الآن في العراق وفي دول عربية أخرى، اعتداء الشيعة على محرمات السنّة والعكس. كم بربكم عدد القنابل التي فُجرّت في بيوت الله ناهيك عن الأسواق والأحياء والساحات والباحات التي يموج بربوعها العزل من المسالمين الذين لا حول ولا قوة لهم. إلا أنهم كانوا شيعة أم سنة …؟!
يذكر جورج طرابيشي في كتابه (هرطقات)، أنه «منذ أن دخل أحمد بن بويه الديلمي بغداد سنة 334هـ بدأت ترى النورَ ظاهرةُ الاقتتال، وحرب الأحياء ما بين السنة والشيعة، ولاسيما بين حيي الكرخ الشيعي، وباب البصرة السني». بل إن صلاة الجمعة، وهي عيد المسلمين، تعطلت كثيرًا، لاتصال القتال بين السنة والشيعة في سنة 349هـ، التي كانت امتدادًا لسنوات سبقتها من الرعب الطائفي؛ كما ذكر ابن الأثير في (الكامل في التاريخ)، على هامش أحداث سنة 349 للهجرة.
فحوى رسالة المتنبئ لنا …!
إن رسالة أبي الطيب المتنبي لا تحمل في طياتها إلا أبيات من الشعر الرصين ولم يكن يحسب الشاعر لها أيّ حساب، نعم، كانت زفره خرجت عبر خياله الشعريّ الجياش أو ربما شهقة دخلت بمحض الصدفة وعبر ملكة شعرية وشاعرية خارقة للعادة، كان يتفرد بها هو وحده عن غيره، فجاء التعبير لحظتئذ لوحة تعبيرية تجسد دراما واقعية لسياق زمني كان “ينتشي” بنيران الطائفية، أقول عن قصد ينتشي، لأننا نحن العرب والمسلمين نتلذذ بنيران الحروب، واشتعال الفتن ورمي الجمرات على الآخرين، فالانتشاء بآلام الآخرين شيمة من شيمنا.
بدأت رسالته خاصة، بين مالك ومملوك، بين سيد ومساد، بين شاعر وملك، فجاءت كالسهم الثاقب الذي يحمل في جعبته زفرات سياسية، نعم سياسية بحتة، اختطفها الغير وحورّها لأغراض دنيئة خاصة تحمل مضامين حربائيّة، تتلون بألوان أطياف المذاهب الدينية المتباينة. صنعوا الرايات والبيارق ليتقاتل تحتها العوام ممن يستمعون القول ولا يتبعون أحسنه، صغارًا وكبارًا، شيبًا وشبابًا، ولكن من يضرم هذه الحروب يتستر خلف الكواليس، ولا ينقشع القناع عن وجهه الأبهم. كل هؤلاء يدعون وصلا برموز ماضية، وبدفاع موهوم عن شخصيات ومقولات ومذاهب، وهم في الأصل تجار قضايا، يتربحون منها في كل لمحة ونفس.
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي!
وكما أشعر المتنبئ … أشعر قبله امرؤ القيس في سياق يمكن أن نترجمه بنفس المعاني المتمثلة في الآهات التي يعانيها ليل الأمة العربية والإسلامية:
امرؤ القيس:
أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ فَيا لَكَ مِن لَيلٍ كَأَنَّ نُجومَهُ بِكُلِّ مُغارِ الفَتلِ شُدَّت بِيَذبُلِ
شرح الأبيات:
١) يقول: قلت له ألا أيها الليل الطويل انكشف وتنحَّ بصبح، أي: ليزل ظلامك بضياء من الصبح، ثم قال: وليس الصبح بأفضل منك عندي لأني أقاسي الهموم نهارًا كما أعانيها ليلًا، أو لأن نهاري أظلم في عيني لازدحام الهموم عليَّ حتى حكى الليل
٢) الأمراس جمع مرس: وهو الحبل – الأصم: الصلب – الأصم: الصلب – الجندل: الصخرة قول مخاطبًا الليل: فيا عجبًا لك من ليل كأن نجومه شدت بحبال من الكتان إلى صخور صلاب، وذلك أنه استطال الليل فيقول: إن نجومه لا تزول من أماكنها ولا تغرب، فكأنها مشدودة بحبال إلى صخور صلبة، وإنما استطال الليل لمعاناته الهموم ومقاساته الأحزان فيه، وقوله: بأمراس كتان، يعني ربطت، فحذف الفعل لدلالة الكلام على حذفه؛ الإغارة: إحكام الفتل. يذبل: جبل بعينه.
خاتمة:
في نهاية هذا المقال وفي مدلهمات ليالي العرب والمسلمين، التي تتعطن بالطائفية والمذهبية، التي سببت في كل أنحاء الوطن العربي والإسلامي القتل والتهجير والهلاك للدواب والناس، ربما هناك ضوء خافت في وسط هذا الليل البهيم، ممثلة في ثورة اقتصادية، اجتماعية، فكرية تقودها المملكة العربية السعودية، فسوف تجني الأمّة ثمارها في القريب العاجل، فهي ثورة ترتكز على فك الرباط الذي ظل جاثما قبل هذه الحقبة على أعناق العباد، ثورة تنادي بإسلام ينادي بالسلم والحرية والعدالة، اسلام ينبذ التطرف البغيض، يدعو للتي هي أحسن وأقوم. لقد أعطت المملكة العربية في الآونة الأخيرة حيزا مميزا لثورة نادرة في كنهها، ثورة تنادي بالسلمية الحقّة، تصبو وتنشد النهوض بالاقتصاد الوطني والإقليميّ، عن طريق تحفيز فرصه الزاخرة، ومحاربة الفساد الذي ينخر بمجتمعات كثيرة من حولنا، حتى أحال شعوب المنطقة، برغم أنها تمتلك من الموارد الخام والموارد البشرية ثروات ضخمة، إلى متسولين ومهجرين ومعدمين؛ إضافة إلى اشتمالها على حرية اجتماعية واسعة، وهي الأساس في أي حرية حقيقية. وبعدُ، فهذه هي الخطوة الحقيقية لتحقيق العدالة الاجتماعية، حرية حقيقية، لا حرية الشعارات الزائفة المخلوطة، التي قامت بتدمير بلدان المنطقة، فلا أرضا قطعت، ولا ظهرا أبقت. دعوني أكررها ثانية يا سادتي، أعيادنا … أعيادٌ بطعم الحنظل …! وقد صدق المتنبئ حتى ولو بعد عشرة قرون ونيّف. وهناك بصيص من نور في آخر النفق، فحيّا الله كل من وقف وقام واجتهد في أن يجعل الإسلام دين المحبة ورسالة السلام والطمأنينة للعالم أجمع.
(٭عن المدائن بوست دوت كوم)
Mohamed@badawi.de