شقّ عليّ الفُراق، واسْتَعْصَت الكِتابة مودِّعاَ شقيقي الأكبر النور محجوب الماحي، فكيف تودِّع وداعاً نِهائيّاً في المساء مَن ضربْت معه صباح نفس اليوم موعِداً للقاء؟ وبأي الكلمات تودِّع مَن حدّثك في نفس يوم وفاته عن الأهل والأصدقاء فرداً فردا، وكأنه يَتْرُك معك وصيّة وداعه لهم؟ أخبرني شقيقي الأصغر عادل بأنّ ابنته فاطمة الزهراء، وهي في زيارة لخالها محمود طه في الرياض، تتحدّث يوميّاً بالهاتف مع عمّها النور في جدّة، وأبدت مؤخّراً قلقها على صحّته واسْتَشْعَرت ذلك من صوته، وقال لي عادل أنّه يجهز نفسه للحصول على تأشيرة لزيارة النور. وحدّثتني شقيقتي حنان أنّها أخذت وعْداً من مَنْهَل بزيارة القاهرة ومعها والدها النور، وطلبت أنْ أحضِّر حالي وأسرتي لانضمَّ لشقيقنا صلاح وزوجته سلوى وأبنائه وأحفاده، وقالت لي “القاهرة صارت مكاناً مُناسِباً تلتقون فيه”. وعدّتها بدوري أنْ نحقِّق ما نتوق إليه طالما تعذَّر اللقاء في الخرطوم بعد الانقلاب اللئيم الذي جعل السودان قِطْعةً من جحيم. اتصلت بشقيقي النور صباح يوم 3 مايو الجاري، ثاني أيام عيد الفطر المبارك، وسعدُّت بمكالمة هاتفية معه استمرّت أكثر من نصف ساعة. كعادته انفتح في الحديث معي، واندهشت أكثر لأنّه كان ينتقِل من اسمٍ لآخرٍ، ومن حِكايةِ آخر حديث له مع أحد أحبابه لغيرها، فتعدّدت الأسماء والتفاصيل التي زيّنت كلامه الأنيق وتشكّلت في مخيلتي مجموعة صور ومشاهِد سهّلت عليَّ تحويلها من السمعِ إلى الإحساس بأبعادِ الحُبِّ الذي تبادله النور مع أصحاب تلك الأسماء. فهل كان يوصيني أنْ أودِّعهم باسمه؟ وكيف انْقُل وداعه لمَن رحلوا قبله وقد وردَت أسماء بعضهم في حديثه؟ وهل كان النور يودِّع مَن سيترُكهم خلفه ويناجي الذين سيذهب للقائهم بإذن ربّه؟ قبل عشرة دقائق من الثامنة مساء نفس اليوم انقبض قلبي ولمْ انْطُق إلّا عِبارة “الو مآب” ردّاً على اتصاله برنين ينْقطِع ثم يعاوِد الكَرّةِ بإصرارٍ.
صدمني خبر وفاة أخي النور فانكفأت على نفسي أبكيه، وفقدت القُدرة على مواساة ابنه مآب. لم أتفوّه بكلمة ولم يقُل مآب غير عبارة واحدة التقطتها بين حشرجة صوته.. “الوفاة حدثت قبل دقائق”، فأصابتني ذات الحالة، وتبادلنا البكاء وتدفّقت دموعنا على خط هاتف اختصر المسافة بين جدّة وبوخارست، ونقلني لأرمي بنفسي في حُضن النور باكياً رافِضاً موته ولا أدري متى أعاد ليّ الاستغفار توازني. فيا له من فراقٍ حار، وفقْد صعب، ووداع مُر، وحزن يحرِّك كل الأحزان على مَن سبقوك من الأحباب أخي الحبيب أبو مُلهم وقد كُنْتَ نُسْخةً طِبق الأصل منهم، فعاشوا معنا حياة إضافية في شخصك، وبذهابك تجدّد حُزْننا عليهم وعلى ذهابهم. لاحِقاً عرفت أنّ النور الذي لمْ يخْرُج من مّنْزِله في الفترةِ الأخيرةِ، ذهب مع أسرته أوّل أيام العيد لحي “الرحيلي” حيث مَنْزِل الحاجة آمنة عبد الجليل، والدة زوجته، وعيّد عليها. ويبدو أنّه ذهب ليودّعها ومَن معها، فكل آل عوض مختار الماحي وآل عبد الجليل وأصهارهم يقضون أوّل أيام الأعياد، والجُمع، في بيتِ الحاجة آمنة ويتمتّعون بحُبِّها وضيافتها وكرمها. وقال لي شقيقي صلاح أنّه وزوجته سلوى تحدّثا مع النور في نفس الليلة بعد منتصفها واخبره بزيارته “الرحيلي” التي أصبحت اختصاراً للحاجة آمنة عميدةٍ الأُسَرِ، بل كل عميدة السودانيين في جدّة. وأضاف صلاح “قضى النور كل النهار في مَنْزِل الحاجة آمنة وطمأنني بأنّه بخير، والواضح أنّه ذهب إلى الرحيلي لشعوره بأنّها أخر أيامه في الحياة لكنه بطبيعته وصبْره لا يشتكي ولا يحِبّ أنْ يقلق الناس عليه”.
كما عرِفت أنّ النور، قبل ساعة من رحيله، تحدّث مع ابنة شقيقنا صلاح الدكتورة سحر التي كانت عائدة بالقطار من المدينة المنورة مع أبنائها وزوجها محمد ووالديه الدكتور عثمان عوض الكريم جانقي ونفيسة خضر شاور، لمقرِ إقامتهم وعملهم في جدّة بعد قضاء آخر أيام رمضان وأول أيام عيد الفطر في المدينة. كما ردّ النور على مهاتفة هبة خالد مهدي من دبي، ابنة شقيقتنا المرحومة الهام.. فيا له من وداع لابنتي شقيقة أكبر وشقيق أصغر منه، ووداع لكل مَن حدّثهم قبل أنْ يرحل وهو وحده يدْرِك أنّه كان يحتضِر ومع ذلك لازمته نفس السكينة، فأي حُبِّ للناس يسري في دماء النور ويسْكن قلبه ليقِف خلف هذا المشهد؟ وأي روح تلك التي خرجت من جسده بهدوء وطمأنينة غير روح صالِحة وفيّة مُحِبّة ومحبوبة تغادِر جسده وهو في حُضن أسرته التي أحبّ، ودفءِ بِرِّ أبنائه، ورِعايةِ زوجته، وتفقُّد الكثير من أهله؟ وأي رسالة تركها لنا النور لتنير لنا طريق الترابط والتواصل الأسري بيننا، والأخوي مع أصدقائه وأصحابه، والإنساني الذي عاش به وله ومات عليه؟ لا ريب أنّ أمثال النور عاشوا كِتاباً مفتوحاً لِمَن عاصروهم وكانوا حولهم، وما عليهم إلّا أنْ يقرؤوا فيه ويعيدوا قراءته حتى بعد ذهاب النور وأمثاله، وهذا الأمر أحد دوافع كتابة تفاصيل رثائي وبكائي على شقيقي النور. على خلفية صدْمتي التي كشف عنها صمتي، قال لي أحد المُعزّين على الهاتف: كتبَ المرحوم بنفسه العبارة الصحيحة لننعيه بها.. “انتقل النور إلى الدار الآخرة”. أي نعم انتقل النور بهدوء، وهو دائماً يأتي ويذهب ليأتي في هدوء. هكذا عوّدنا واعتِدْنا، فكيف لا تقِلّ سعادتنا، بل كيف لا يسيطِر علينا الألم والحُزن والنور لنْ يأتْ بعد ذهابه هذه المرّة؟ ألغى اندلاع جائحة فيروس كورونا المُسْتَجِد التي اجتاحت كل العالم الموعِد الذي ضربناه سويّاً للقاء في السودان. أصبحنا، النور وأنا، نؤخِّر موعِد اللقاء شهراً فاثنين بظنِّ أنّ الجائحة عابِرة، مصيرها الانقشاع. وعندما توالت الأشهر وأصبحت سَنة فسنتين، تأجل معها اللقاء في السودان، وانحصر في حديثٍ هاتِفيٍ تحوّل من أسبوعياً إلى أكثر من مرّة في أيام الله السبعة ليضعني النور في الصورة الكاملة والشامِلة لأفراد الأسرة الصغيرة والكبيرة الذين أصبحوا ككُلِّ الأسر السودانية موزعين في أنحاء وأقاصي العالم المختلفة، ولا ينسى جيرانهم وأصهارهم، ولا تنتهي جولته التفقدية التي قام بها بزملائه وأصدقائه وقد صاروا جزءً من أسرتنا.. فهكذا كان النور يصادِق أصدقاءك وزملاءك ويجعلك حبيباً لأصدقائه. عندما وضع ابنه الأكبر مُلهم (موبايل ذكي) في يده وعلّمه الدخول على منصة (إيمو) للمحادثات عابِرة الحدود بفاتورة الأنترنيت فقط، أصبح النور مُتواصِلاً، صوتاً وصورةً، مع أركان الدنيا الأربعة باحِثاً عمّن يعرف، ومَن لا يعرفه ليتعرّف عليه ويفرح بمعرِفته. لمْ تكُن تنتهي أيّة محادثة معه إلّا بعد أنْ أحقِّق له طلبه بمدِّه بأرقام مَن جاء ذِكرهم أثناء حديثنا، واعتاد النور أنْ يجهِّز قائمة من الأرقام ليمليها عليك عند علمه بخبرٍ، مُفْرِحاً كان أمْ حزيناً، ويتأكد في اتصال لاحق إنّك تواصلت مع كل تلك الأرقام وقد يضيف أُخريات. فمَن يقوم بذلك بعد رحيلك المُر أخي النور؟ وكيف نوسِّع محيط علاقاتنا بعدك؟ وكيف ستجري أنْهُر الودّ والتراحُم والتواصُل وقد كنت لها المنبع بقلبك الكبير تُراعي مسراها وترعى مجراها؟ وبقدرتك الفائقة على حُبِّ كل الناس واستعدادك لاقْتِحام كل الناس كنت مصبّاً لِمَا ينْبُع من غيرك من مودّة وتواصُل مع آخرين، فاين تجِد تلك العلائق مصبّاً بعدك يا بحر من الحُبّ والكرم والتسامُح؟ ويا خوفنا من أنْ تنضب منابِع التراحُم بعدك يا نبع الحنان والمحبّة. كان أعمامك وأخوالك ووالداك كرماء معك فورِثت أخلاقهم وشاركتهم في حياتهم حمل راية التراحُم مع الأهل والتواصُل مع أصدقاء الأهل ومعارفهم، فلمَن تسلِّم الراية وكيف تسلِّمها وقد ذهبْتَ فجأة؟
كان النور المُقيم في جدّة بالسعودية يمدّ شقيقه صلاح في حي الطائف بالخرطوم بأخبار أفراح وأتراح ونجاحات وسفر وعودة وأمراض ألمّت بمَن ألّمَت مِن الأهل والمعارف المقيمين في امدرمان وبحري ومدني وربك وكوستي وبورتسودان وكبوشية وبقية مدن السودان.. وحتّى، كما قال لي صلاح نفسه، المقيمين في حِلّة الفكي هاشم وفي أحياء أركويت والرياض وبُرِّي والمنشية الواقعة على مرمى حجر من منزل صلاح وبيت أسرتنا في امتداد ناصر، فينطلق أشقائي صلاح وعادل وحنان وأبنائهم، فيما النور القابِع في عروس البحر الأحمر على ساحله السعودي، كأنّه (جي بي اس) يقودهم إلى الأمْكِنة التي عليهم الوصول إليها ويتابع مشاويرهم وكأنّه معهم في سياراتهم. كانت ذاكرته مُتّقِدة في معرِفة الناس، أسماءً وأواصِرَ، وكان لا يغيب عن الحضور في الزمن الصحيح للمكان الصحيح، قريباً كان أمْ بعيداً من أي حدث لأي من أهله وأصدقائه وصولاً لأصدقاء أصدقائه. فمَن سيقوم بكل ذلك يا صلاح؟ أصبح النور الماحي أحد معالِم مدينة جدّة، لا تحتاج لتذهب لزيارته لأنّه يأتيك، وإنْ لمْ تتّصِل به كان يصلك ويقضي لك حاجتك وما تمنَّيت. كتب لي مُعزِّياً أحد الأقرباء الذين درجوا على الذهاب أكثر من مرّة في السَنة لأرْضِ الحرمين الشريفين “صارت السعودية مسيخَة وقد كُنّا نذهب للحرمين في مكّة والمدينة والنور محجوب.. كان النور مزاراً يتبرّك بنفحاته وحُبِّه للناس.. وهَبَ نفسه لخدمتهم وتوفير احتياجاتهم وتحقيق رغباتهم بأكثر مِمّا يمتلِك..”. بوفاتك أخي النور طُوِيَت صفحة لقائنا في الدنيا وذهبْتَ للقاء ربك ولأهل أحسن منّا ولديار أفضل من ديارنا في جنّةٍ ونعيمٍ إنْ شاء الله مع مّن أحببت، والديك وعماتك وأعمامك وأخوالك وخالاتك وشقيقتك الهام ومن سبقك من الأهل والأصدقاء والأصحاب الذين أخالهم بعدد خطواتك التي مشيتها إليهم تودُّداً وتراحُماً لم يفعله أحد مِثلك من قبل.. وكيف لا يكون ذلك كذلك ووالدنا أطلق عليك اسم نسيبة النور مصطفى النور، وفاءً لصديق والده محمد احمد الماحي، فحملت الاسم وشرّفته وجعلت جدّنا النور وكأنّه حيّاً بيننا فاحبّك أبنائه جميعاً، محمد وبابكر وعمر وعثمان وعلي وبناته صفية وسيدة، وأسعدت شقيقتهم والدتنا أم النور، ستّنا بت النور. سيبقى النور بيننا بسيرته العطِرة وحكاياته التي كان يمتّع بها جلساتنا وأحاديثنا، وعليّ أنْ ألمْلِم أطراف نفسي وعقلي وفكري ومشاعري وأحاسيسي، لأكتب مُعزياً أحبابه وأصدقاءه قبل أهله. وعليه، أعزي البروفيسور علي شمو وقد أكد شقيقي صلاح انه سيأخذ عادل ويذهبا لتلقي العزاء في النور من بروف علي شمو في بيته وسيفعلان نفس الشيء مع عُمَر محمد الطيب وقد كان النور يكِنّ لهما ودّاً خاصاً، وابقى ذكرى والدنا حيّة في احاديث بروف شمو كُلّما تناول شأن الخِدْمة المدنيّة أو الحركة الوطنيّة التي حقّقت الاستقلال والسودنة والجلاء. ومُنْذ أنْ انتقل عُمَر محمد الطيب إلى السعودية ارتبط النور معه بصداقة ومحبّة، لمْ تمْتحِنها السِجون والمُحاكمات التي تعرّض لها والدنا خلال نظام مايو 69 وقد كان عُمَر محمد الطيب أحد أركانه بل الرجل الثاني فيه ورئيس جهاز أمْنِه. كان النور مُتصالِحاً مع نفسه، ومُتسامِحاً مع غيره، وقادِراً على فصل ما يستحق فصله من أحداث وتطورات تفرِز طاقة سلبية وعدم خلطها مع علاقات تدفع بطاقةٍ إيجابيةٍ تجعل الراهن ينظر للمستقبل بآمال عريضة بدلاً من تكبيله بحُمولات ماضٍ ذهب بخيره وشره، فصارت بذلك علاقته مع صديقه الذي لم يكفّ عن مناداته “عمي عُمَر” ضمن حكايات النور الشيّقة التي يعطِّر بها المجالس واستمرّ تواصلهما بعد عودة عُمَر للخرطوم خلال زيارات النور السنوية للسودان وعُمْر للسعودية، وكان عُمَر محمد الطيب على رأس الذين شيعوا يوم 20 إبريل 2005 جُثمان الوالد محجوب الماحي بمقابر بري المحس بجانب محمد إبراهيم نُقد ولفيف من قادة الطيف السياسي فتأكّدت النظرة القومية التي عاش بها الوالد. وددّت أنْ اكتُب عن بعض حكايات كان النور يسْعَد بسردِها، جمعت والدنا ودينمو الحركة الوطنية والاتحادية يحي الفضلي، واستمرّت من النِصف الثاني من الستينيات إلى انقلاب مايو 69 وما بعد ذلك حتّى وفاة الفضلي يحي. كان النور، الذي لمْ يكْمِل حينها الثامِنة عشر من عُمْره، أحد أطراف تلك “الحكايات التي لا تموت” بل دارت حوله وكان نواتها وتركَت لنا ذكريات جميلة مع الفضلي الإنسان والشاعِر قبل الوزير أو السياسي الذي كان عندما يزور والدي بمنزل الحكومة بالسكة حديد الخرطوم يصْرُف سائقه بعربة الوزير “الهمبر الفِضّية” ليوصِّله النور بسيارة الوالد “موريس ماينر خضراء” وبعدها بـ “موسكوفيتش بيضاء” لمقرِّ إقامته بمنزل مجاور لوزارة المعارف. أعزي أصدقائي ابوبكر وعمر يحي الفضلي، فالنور كان عند والدهما كأولاده، وكان والدنا لوالدهما كما شقيقه محمود الفضلي. وأعزي أصدقاء النور بالجمارِك، مديرها السابق صلاح الشيخ والحالي بشير الطاهر، محمد سيد احمد (عبدو)، محمد برناوي، الشريف يعقوب، جليس، محمد شريف، يوسف محمد يوسف، عبد المنعم احمد إدريس، عزالدين البدوي، محمد عبد المحمود الذي تقاعد وانتقل لجدّة وأصبح والنور يتبادلان الزيارات والذكريات في لقاءاتهما. وعزائي أيضاً موصول لزملاء النور في المراحل الدراسية المختلفة، السفير عبد المحمود عبد الحليم، وصديقا النور “الروح بالروح” وفقاً للمقولة السودانية التي تفيض حناناً، المرحوم نجم الدين الزئبق والمهندس عباس كُلم وقد أصبحنا وكل أفراد أسرة آل كُلم أصدِقاء وأحِباء بتلك العلاقة. وأعزي كل أصدقائه الرياضيين خاصة شوقي عبد العزيز (الأسد) وقد بكى النور صديقه أمين ذكي والراحلين من اللاعبين والإداريين بنادي الهلال الذي كان النور يعشِقه على دربِ خاله بابكر النور أحد كبار الإداريين بنادي (الهلالاب) في عصره الذهبي، وشجّع النور اللون الأزرق مثل خاله عمر النور الذي كان رياضياً ضِمن جهاز تحكيم كُرة القدم. وأعزي السفراء عبد الرحمن ضرار وحسن سوار الدهب وقد عملا في قنصلية السودان بجدّة وأصبحت صداقتهما مع النور جزءً من حياتنا بحديثه عنهما وتواصله معهما. وعزائي لقبيلةِ العاملين السابقين والحاليين في سِكَكِ حديد السودان، وخاصة الذين عاصروا الوالد في كل المُدن التي عمل بها، عطبرة، الخرطوم، بورتسودان والأبيض وقد كان النور يعرف زملاء وأصدقاء الوالد وأسرهم كما يعرف أهله وأسرته، وكان مرْجِعاً لي كُلّما كتبْت عن السِكّة حديد والوالد أو احتجت لسرد الأسماء. وحقّاً لا أدرى كيف أعزي مجموعة إسكندرية، وأبكي النور مع الأحياء منهم والأموات، فعلاقة النور بهم حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة في دنيا الصداقات المُسْتَمِرّة والقويّة بين مجموعة من الطلاب السودانيين الذين درسوا في الإسكندرية بجمهورية مصر العربية، واستمرّ ترابطهم عندما عادوا للوطن مُسلّحين بأرقى الشهادات وصاروا يلتقون على الأقل مرّة كل شهر بمنزل أحدهم في وجبة غداء تستمر حتى المساء وقد سعدّت كثيراً بحضور بعض “الجُمْع” التي جدّدت ترابطهم وطوّرت تواصلهم الاجتماعي. مع عودة ابن خالتنا، دكتور صيدلي فيصل حسين عبد الرحمن من دراسته في إسكندرية أواخر عام 1978، ادخل “فيصل شيرينق” حبيب روحه النور الماحي في مجموعتهم، ومن يومها صار النور رقماً ثابِتاً في المجموعة، حتى مغادرته للسعودية عام 1986 واستمرّ في تواصله معهم خلال زياراته المُتعدِّدة للسودان وشرّفوه بزياراتهم له في جدّة، وبذا صاروا أصدقاءه وبالتالي أصبحوا أهلنا بفضْلِ فيصل والنور. فانظُر يا رعاك الله كيف وسّعا دائرة الأهل والأحباب. أعزى المهندس سامي حسب الرسول وطبيب الأسنان ماهر سعد وجرّاح الكلى والمسالك البولية انيل كومار، والأطباء والزراعيين والاقتصاديين والمهندسين معاوية مصطفى وصديق منصور ومحمد عمر الجعلي واخوه ميسرة وسمير وهميمي ومحمد يوسف العَشّي ونادر فائز واحمد عبد الحليم ومعاوية إبراهيم حمد، وابكي على فُراق العميد شرطة طبيب الفاتح الشقيري والمرحوم مهندس حامد أبْوَرقة، وبانتقال النور إلى الدار الآخرة ازداد حُزني على الرحيل المُبكِّر لحبيبنا فيصل حسين (أبريل 2006) وقد كنّا نجِد في النور رائحة فيصل وعِطر ذكرياتنا معه.. وكُنت كُلّما جلست مع النور أتخيّل فيصل جالِساً معنا، قادِماً أو ذاهِباً بابتسامته الوضيئة وبأناقته بلدي وإفرنجي، قميصاً وبِنْطالاً وحِذاءً أو صندلاَ، جلابيةً وطاقيةً وعِمّةً على كتْفِه ناصِعة البياض كضميره، فمَن يجعل فيصل حاضِراً بيننا بعد ذهاب النور؟ لمْ يتعاطى النور السياسة أبدأ، برغمِ أنّه قام بأدوارٍ في الخفاء دعماً ومُساندةً للمناضل البطل الشريف حسين الهندي وشقيقه زين العابدين خلال معارضتهما نظام مايو 69. كان النور يدير حينها مكتب الماحي التجاري للتخليص الجُمْركي بمطارِ الخرطوم ومعه الطيب حمد الذي ينادونه في كل صالات ومخازن الجمارِك “الطيب الماحي”، وبالفعل صار من أبناء الأسرة وتقاسم معنا “الحلوة والمُرّة”، كما عملَت معهما الأخت فوزية والمحامي النور فضل الله المُقيم حالياً في قطر، قبل سفره لدراسة القانون بمصر، وقبلهم جميعاً عمل بذات رُخصة التخليص الجُمْركي شقيقي صلاح وسلّمها للنور والذي بدوره سلّمها لعادل مع حبيبنا الطيب حمد.. فيا لتبادل التسليم والتسلُّم وصاحب الرخصة، محجوب الماحي، قابِعٌ في مكتبه بعمارة سفريان يوظِّف كُلِّما يأتيه منها في العمل الاجتماعي والكثير من الأهل والأصدقاء وخريجي مكتب الماحي التجاري أشبه بيُسْراه التي لا تعرِف عطاء يُمْناه. كان النور يقوم بتخليص أمتعة شخصية وطرود تصل (كارقو) من عواصم دول عديدة للخرطوم بداخلها منشورات وشرائط كاسيت وفيديوهات ومجلات الدستور والعَلم والبرلمان التي كانت تصدرها المعارضة بقيادة الشريف حسين الهندي. كان الأمر يجري سِريّاً لا يعرف عنه سوى زين العابدين والاتحادي المطبوع حسين قريش، ولمْ يعلم به حتّى الوالد ولا صديق عُمْرِه ونضاله الأستاذ علي محمود حسنين، ونجح النور في تسليم زين العابدين الهندي ما أرْسِل له بأسماء مختلفة حتّى بعد أنْ أدّت إجراءات كشف أحد الطرود لمعرفة محتويات الشُحنة من قبل مفتش الجمارك والشرطي ومع ذلك مرّرا بوليصة الشحن ووافقا على تخليص الطرود وتحمّلا مع النور مسؤولية كبيرة بالمخاطِر التي تترتّب عليها، وطلبا من النور أنّ يشركهما في مرّات قادِمة ليقوما بدورهما الوطني، وصارحا النور بأنّهما سيفعلان المستحيل لتصل رسائل الشريف حسين لِمَن يستهدفهم بها.. فصارت إجراءات كشف أحد الطرود برداً وسلاماً على الشُحنة وكل الشحنات اللاحقة. ولعلها كانت تجرُبة أثبتت أنّ الاتحاديين تجِدهم في كل مكان، جماعات وأفراداً، خاصة إذا احتِجْتَ إليهم دون أنْ تضرب معهم موعِداً. يأتون مثل “مطر عِزَّ الحريق” يحملون مصابيح “الطريق للبرلمان” والحرية والديمقراطية، فعِندما يفكِّر اتحادي في لندن مثلاً، تجد اتحادياً آخر في الخرطوم، عطبرة أو جوبا.. في بورتسودان، مروي أو نيالا رُبّما، ينفِّذ نفس الفِكرة خاصة على ضوءِ أيِّ موقِفٍ وطنيِّ حَرِجٍ تمرّ به البلاد. عموماً، لمْ يأخُذ النور مسؤولية مشروع أو قضية أو حالة إلّا وكان النجاح أو الإنجاز هما النهاية السعيدة.. لله كان دَرَّك وأنت حيٌّ أخي النور، ولله يبقى دَرّك المُستمِرّ وأنت ميّتٌ، فيمتّد عملك الطيب بعد رحيلك وتلك شيمة الصالحين الذين يختارهم الربّ للعملِ الطيبِ والصالحِ.. وأنت خيار من خيار. كان النور يسَكِّن في الخانة المُسْتحقّة معادلات الشر والخير، الظُلم والتطرف وتفشي الكراهية والديكتاتورية وقُبح مشهد الوطن السياسي والاقتصادي، وحتّى المشهد الاجتماعي بتأثير السياسي والاقتصادي عليه، مقابل العدل والقناعة والحُبّ والجمال والحُريّة والديمقراطية.. وكان النور يغلِّب الكفَّة الصحيحة بسجيّته وشفافيّته وصراحته ووضوح رؤيته واعتداله الأنيق لمُلاقاة التغيير الذي يصنعه شباب السودان ويدافعون عنه ويحرسون قيمه. لمْ يحدثني النور في السياسة ولم يتبادل معي قضايا السياسة إلّا بعد، وعلى خلفية ثورة الشباب المنتصرة في 11 إبريل 2019 والمُتجدِّدة التي تنتظر تحقيق نصرها القادم بإذن الله وبإرادة وتصميم الأجيال “من تلاتين سنة لتحت” ومعهم مَن رَحَم ربّي وظلوا قابضين على جمر القضية ساخناً من الأجيال “من تلاتين سنة لفوق”، وفي معاناتهم وصمودهم يختبئ النصر القادم وحتماً سيطِل فجر دحر الانقلاب على ثورة الشباب. ؛؛؛…؛؛؛ قبل أنْ اخْتِم أضيف أنّني كُنْت قد طلبت من شقيقي النور بعض معلومات تمكِّنني من الكِتابة عن زوجته فاطمة الماحي بعد تقاعدها في المعاش، ولمْ أتمكَّنْ من تحقيق رغبتي التي كنت أخطِّط أنْ تشمِل حكايات أنقلها على لسانه. ومع ذلك، أضع أدناه مع إضافات ومعلومات جديدة، بعض مِمّا كتبْت ضمن سلسلة ذكريات وأسرار حوارات وأحاديث في السياسة والمجتمع تحت عنوان “حكايات لا تموت.. مع محجوب الماحي وآخرين” مُنْتَظِراً أنْ يتوفَّر لي الوقت والظرف المُناسب لأضعها في كتاب يجب أنْ أجلِس إليه لتجهيزه ثُمّ الدفع به للمطبعة. ؛؛؛…؛؛؛ حُبّي لكلمة “المُعلِّمة” ورِثته من عمّتي المُعلِّمة حواء الماحي. كانت “سِت حواء” تبتسم وتركِّز اهتمامها عندما يقال لها “المُعلِّمة” أكثر من أنْ يسبق اسمها كلمة “الأستاذة” أو “الناظرة” أو “المُفتِّشة” حيث ختمت حياتها العملية في منصب كبيرة مفتشين بوزارة التربية، وكان اسمها وزارة المعارِف عندما بدأت عمتي حواء خِدْمتها، عِلماً بأنّها تحبِّذ وصف ما قامت به بـ “الواجب الوطني”. فيا له من زمن، ويا لها من شخصية يسعدني كثيراً الحديث عنها وسرد بعض صفحات سيرتها ومسيرتها كمُعلِّمة ورائدة تعليم البنات في قرية البجراوية أو “قوز بُرّه” بغرب كبوشية حيث أسّست “مدرسة حواء الماحي للبنات”، وبالطبع كإنسانة وباعتبارها عمّتي قبل أي شيء آخر لها بصماتها في حياتي. عندما نزلت المُعلِّمة فاطمة عوض مختار الماحي للمعاش التقاعدي قرّرت أنْ اكتب عنها وقد شاءت الصُدف في تلك الفترة أنْ أتحدّث معها كثيراً ومع زوجها النور. والحديث عن “فاطمة الماحي”، كما ينادونها ويكتبون اسمها مثلها مثل زوجها الذي يُخْتصر اسمه الرُباعي إلى “النور الماحي”، حديث ثلاثي الأبعاد يجب أنْ يشْمِل زوجها، والدها العم عوض مختار الماحي ووالدتها الحاجة آمنة عبد الجليل أطال الله عُمْرَها ومتّعها بالصحّةِ والعافيةِ، إضافة إلى أنّه حتماً يتطرق لوالدي ووالدتي، وبذا تتعدّد الشخصيات وأدوار كل منهم في مشهدٍ واحد، لكلٍ حكاياته التي تفرض نفسها في حكاية فاطمة الماحي المُعلِّمة والدة المهندس مُلهم وإخوانه، القانوني مآب والطبيب معن وأختهم خريجة الإعلام مَنْهَل. تخرجت فطوم، كما يحلو لنا مناداتها قبل أنْ تتزيّن بلقب أم مُلهم، من جامعة الملك عبد العزيز بجدّة عام 1982 ببكالوريوس آداب – تخصص علم اجتماع، وعملت معلمة في العديد من رياض الأطفال ومدارس مدينة جدّة إلى أنْ وصلت مديرة وتقاعدت مطلع أكتوبر 2016. حصلت خلال مسيرتها على العديد من الجوائز التقديرية، منها جائزة التعليم في الإدارة والمدرسة المتميّزة من إدارة رياض الأطفال بجدّة، وفئة الإدارة والمدرسة لجائزة التعليم للتميّز لدورة 2015 – 2016 من وزارة التعليم. وكان حفل تكريمها عندما تقاعدت مشهوداً، توشّحت فيه بأسمى درجات التقدير والحُبّ من زملائها. اتصلت عليها في الأسبوع الأول من أبريل الماضي للتهنئة بحلول شهر رمضان وقُلت لها ضمن حديثي وتعليقاتي “لا زال الجو عندكم طيباً ولم تبدأ السخانة والرطوبة بعد”، فقالت فطومة “نحْمِدُ الله على ذلك ونحن سعداء وقد فتحوا لنا العُمْرَة، أدام الله علينا فضله وكرمه”، فتذكرت إنّني كلّما اتصلت على شقيقي النور، كثيراً ما يقول لي “أم مُلهم في مكة تؤدي العُمْرة”، وفي كل زيارة لها لبيت الله في مكّة تؤدي أمّ مُلهم اكثر من عُمْرَة درجت على وهبها لأحد أفراد العائلة من الذين رحلوا، فهنيئاً لكل الأهل والأحباب الذين فارقونا وبالأخص والدها وشقيقها محمد ووالديّ وشقيقتي الهام والدكتور فيصل حسين وَدْ خالتي صفية بت النور وسيرته الزكية مُقيمة وساكِنة في بيت حبيب روحه النور. تقبل الله عِبادة كل مَن وهبته أم مُلهم عُمْرَة وأثْقلَت ميزان حسناته، وجعل الله كل ذلك في ميزان حسناتها.
بوخارست – رومانيا نقْلاً عن صحيفة (السوداني) الخميس 12 مايو 2022