ظل التعليم في السودان يشهد تدهوراً مريعاً ومتسارعاً على مستوى البنية التحتية Infrastructure والبنية الفوقية Superstructure على حد سواء، وذلك منذ ثمانينيات القرن المنصرم إلى يومنا هذا.
وبقدر ما كان التعليم في الماضي يقف على أرضية صلبة من حيث توافر مطلوبات العملية التربوية بالقدر الذي يحقق أهداف التعليم، فقد أصبح يقف على أرضية هشة تتمثل في مخرجات غير مواكبة للعصر، وخريجين لا يُعول عليهم كثيراً في الإسهام في نهضة البلاد، و الارتقاء بالخدمة المدنية.
وأصبحت الجامعات السودانية، على سبيل المثال، تخرج أعداداً كبيرة من الخريجين، في مختلف التخصصات، لكن مستويات كثيرين منهم تعد ضعيفة و دون المطلوب. هذا ليس إفتئاتاً، ولكنها حقيقة معلومة تؤيدها معطيات الواقع المعيش، وتؤكدها التجارب الماثلة في كثير من مجالات العمل. ومن المفارقات المؤسفة أن يُمنح الطالب درجة علمية معينة، ثم يثبت عملياً، أي من خلال العمل في وظيفة ذات علاقة بتخصصه، أنه غير مؤهل أو كفء لأداء تلك الوظيفة.
ومن المعلوم أن قطاعي التعليم العام والعالي بالسودان قد شهدا توسعاً أفقياً كبيراً خلال فترة الإنقاذ الحالية، انتظم أغلب مناطق السودان، لكن التجربة العملية برهنت على أن هذا التوسع لم يكن مدروساً أو مخططاً له بالشكل الذي يحقق المطلوبات ذات الصلة بتحقيق مخرجات العملية التربوية. و تبعاً لذلك فقد أفرزت تجربة التوسع الأفقي في التعليم، التي كانت ثمة حاجة إليها كونها تعمل على توسيع قاعدة التعليم، وتوفير فرص تعليمية أكبر، أفرزت واقعاً تعليمياً مأزوماً من حيث البيئة المدرسية غير المهيأة، و غيرها من وسائل ضرورية لأداء التعليم رسالته كما ينبغي، وهذا ما ظل ينعكس سلباً على المستوى الأكاديمي للطلاب ويؤثر، بدوره، في الخدمة المدنية و التطور العام بالبلاد.
من ناحية أخرى تدلل البطالة “Unemployment” التي إستشرت في السودان بصورة غير مسبوقة على عدم قيام الجهات المعنية بأمر التعليم بالربط بين التعليم وسوق العمل بالمستوى الذي يلبي حاجة هذا السوق من الكوادر التي يحتاج إليها دون الدفع بأعداد مهولة من الخريجين الذين يظل الواحد منهم عاطلاً عن العمل سنوات طويلة. و فيما يتعلق بالبطالة و انقلاب الأحوال رأساً على عقب في هذا المضمار فقد نما لعلمنا الطبيب الذي يسوق “ركشة” وخريج القانون الذي ببقي سنوات يعمل في كمائن الطوب حتى ينسى تخصصه، و المهندس الذي يعمل في محل تجاري، وغيرهم من الخريجين الذين يظلون يلهثون وراء الوظيفة سنوات طويلة من دون طائل.
غني عن القول إن التعليم دخل باب “التجارة” من أوسع الأبواب، ويتمثل ذلك في إنشاء المدارس و الكليات و الجامعات الخاصة، بصورة لا مثيل لها في تاريخ السودان الحديث، مع عدم توافر الضوابط التربوية لعمل هذه المؤسسات التعليمية، فضلاً عن رفع الدولة يدها عن دعم التعليم الحكومي، وتركته نهباً للتدهور ، وهذه العوامل مجتمعة تمثل متراساً يقف بين التعليم و انطلاقته المواكبة للعصر.
وتعد أسباب تدهور التعليم في بلادنا متباينة، غير أن شروط خدمة المعلم تأتي على رأس هذه الأسباب. فشروط خدمته والتي تعدّ، بكل المقاييس، مجحفة، و لا تتناسب مع رسالته تجعل هذه المهنة طاردة؛ كونها لا تعمل على ضمان الحد الأدنى من الحياة المعيشية الكريمة التي تؤمّن للمعلم الاستقرار “الشخصي” أو الأسري الذي يمكن أن يعينه على أداء رسالته. و ليس أدل على ذلك من واقع المعلم الذي يحدث عن معاناته، ويدفعه إلى ترك هذه المهنة وقتما تتوافر له وظيفة أفضل، أو يجد فرصة عمل خارج البلاد.
و لما لم تحظ قضية التعليم بالاهتمام اللازم المصوب نحو إيجاد حل لها فقد ظلت آخذة في التعقيد و قادت تداعياتها، مع مرور الزمن، الی أزمة حقيقية ظلت تلقي بظلالها السالبة علی كل مناحي الحياة و بالذات على الخدمة المدنية Civil Service”” التي ترتبط إرتباطا عضوياً بمخرجات العملية التعليمية، و تتأثر إيجابا أو سلبا بها. و قد تجسدت التأثيرات السالبة للأزمة المشار إليها في ردة حضارية لا تخطئها العين، ظلت تشهدها بلادنا علی مر السنوات الماضية، حتی صنفت ضمن أكثر البلدان تخلفاً، و ذلك برغم المظاهر الحضارية السطحية التي تبدو عليها هنا وهناك، و التي تعدّ وليدة التطور الحضاري الدولي العام الذي فرض نفسه على مستوى العالم.
و من الحقائق البدهية أن تحقيق النهضة بأي بلد يستلزم الاهتمام بالتعليم و الإنفاق عليه بسخاء؛ لأن التعليم يمثل، في التحليل النهائي، تنمية الموارد البشرية، التي تمثل عماد نهضة الشعوب. ذلك أن الدول المتقدمة لم تصل اإی ما وصلت إليه من تطور، ولم تحقق ما حققته من طفرات مذهلة “Tremendous booms” إلا من خلال اهتمامها الكبير بأمر التعليم.
ومن المفارقات الصارخة التي تمثل بوناً شاسعاً بين بلادنا و الدول المتقدمة أنه في الوقت الذي ظلت فيه هذه الدول تحقق طفرات نوعية في مجال التعليم، وتركز في التعليم النوعي، كما تولی اهتماماً كبيراً للبحث العلمي موظفة إياه في برامجها التطويرية الديناميكية، فان بلادنا لا زالت تقبع في مربع التخلف في هذا المضمار ،وذلك إلی الحد الذي أصبحت معه خارج إطار العصر من حيث مواكبة ركب التطور الدولي.
ومن الشواهد التي تمثل برهاناً ساطعاً علی ذلك، وينطق بتراجيدية الحال، أن الراهن الحضاري العام بالسودان يعد بائساً في شتی مناحي الحياة. و من ذلك، فان الواقع التعليمي الصامت الناطق في آن يعد كارثياً بكل المقاييس، وهذا ما يجعله في حاجة ماسة إلى جهود فوق العادة تشرّح قضيته، و تعمل على سبر أغوارها، سعياً وراء إيجاد الحلول الناجعة لها. وبالطبع لا يتأتی هذا الأمر إلا عبر توافر إرادة الدولة المسنودة باستشعار المسؤولية نحو تحقيق النهضة الشاملة من خلال إجراء إصلاح حقيقي يستهدف الارتقاء بالتعليم.
ومن البديهي أن يظل حال التعليم كما هو ،ويبقى تحقيق النهضة حلماً بعيد المنال، ما دام أن واقع الحال ينبيء عن عدم وعي القائمين على أمر البلاد بدور التعليم في تحقيق نهضة الشعوب، ومن ثم، عدم وضعه ضمن أولويات الأجندة الوطنية.
غير أن جذوة الأمل في تغيير واقع حال التعليم يجب أن تظل متقدة؛ كونه يمثل مفتاح النهضة التي لا سبيل إلى تحقيقيها بدونه.