سبق لي الكتابة مرات عن والدي ، وأكثر ما كتبته عنه ارتباطه بالديوان الذي ظل يستقبل فيه كل الضيوف من كل السحنات وكل فجاج الجغرافيا . وكثير من أهلنا الأقربين والبعيدين يعرفون ذلك . كان الوالد كريماً لدرجة أنني قلت وأنا أراجع القول : لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع ، أنه لا شك من أهل الجنة إن شاء الله . وغير ذلك كان رجلا متديناً لا تفوته صلاة ولا يترك الصيام ، وقد أدى الحج مرتين ، وأدى العمرة ، وزار المصطفى عليه الصلاة والسلام . وكان رجلا مزارعا يهتم بأرضه وحرثه وبهائمه ، وكان متواصلا مع أهله وأصدقائه بشكل قلنا نحن عنه أنه كان أكثر من اللازم . وكان يتعامل مع الناس بالحسنى ، ويطبّق حرفيا حديث الدين المعاملة .
ورغم ذلك فقد شهدت الوالد يطرد ضيفا من ديوانه . جاءه الضيف ذات مساء ، تعشى ، واستلم سريره في باحة الديوان . وكان من عادة الوالد أنه يملأ الإبريق ويضعه إلى جوار سرير الضيف . والإبريق عند الوالد له معاني وأبعاد عميقة جدا. وجاء بعد الصبح يحمل الشاي للضيف ، لكن الضيف لا يزال غارقا في النوم . فأيقظه ، وسأله بشكل مباشر : إنت يا زول ما قمت صليت الصبح ؟ فردّ الضيف : الله يهدينا يا حاج . فسأله : طيب إنت ما قمت إسيّرت وللا قطعت الجمار ؟ فقال الضيف : الله يهدينا ياحاج . فصبّ الوالد الشاي للضيف ، وجاءه بالزيادة بعد أن شرب ، لكن الضيف أصر أنه يكفيه كوب واحد . فقال له الوالد : يا زول شوف ، كان شبعت من الشاي قوم شوف ليك محلاً يضيّفك ، فإنت ما ضيفنا . فخرج الرجل ولا علم لي أين ذهب .
ومرة ونحن جلوس متحلقين حول صينية الغداء في ظل راكوبة ، فجاءنا ضيف يركب جملا أصهب . فقام إليه أحدنا وساعده على ربط الجمل ، ودعاه إلى المائدة المكونة من كسرة وملاح وسلطة . لكن الضيف رفض وجلس فوق عنقريب هبّاب بعيدا عن صينية الأكل . فدعاه الوالد لمشاركة الناس في الأكل ، وقال له : حتى كان اتغديت تعال دخّل إيدك مع الناس ، فالبركة في الزاد الذي كثرت فيه الأيادي . لكن الضيف أصرّ وزاد : أنا ماباكل أكل الصدّف . واستمر الوالد في إصراره على الضيف ، واستمر الضيف في رفضه . ولما أكملنا أكلنا أقبل الوالد على الضيف وقال له : يا زول قوم على حيلك ، اركب جملك ، وشوف ليك زولا يضبح ليك ضبيحة ، نحن ماعندنا غير الشفتو ده . فقام الرجل إلى جمله وانصرف، ولا أدري أين ذهب .
ومرة كان يعمل لدينا بالزراعة اثنان من العمال ، وأمضيا معنا عددا من الأشهر ، وكنا نأكل سويا مع الضيوف والعمّال في صينية واحدة ، لا نتغيب عنها أبدا . وذات أمسية شكى الوالد من بعض الألم في بطنه فرقد فوق عنقريب أمام الديوان، وحان وقت العشاء ، وجيء بصينية العشاء . لكن الوالد قال أنه لا يستطيع أن يأكل واعتذر أمام الجميع . فقام رجل من العمّال وقال: الحاج ده بيمشي جوة البيت وبياكل سمن وعسل . ويبدو أن ذلك أغضب الوالد خاصة وأنه لم يحدث أن أكل لقمة واحدة داخل البيت ، لكنه في تلك اللحظة كتم غيظه . ولما أصبح الصباح نادى على عمي أحمد ، وأمره أن يحاسب العاملين فورا ، وأن يطلب منهم أن لا يعملوا معه أبدا . ولا أعلم أين ذهبا .