عاد شبح (أوكامبو) إلى المسرح السياسي السوداني من خلال الغضبة التي يتم توجيهها الآن إلى فولكر، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، في تكرار لأسلوب الهيجان العاطفي الذي ظل يكبل أقدام العمل السياسي السوداني طوال عهد النظام السابق.
هكذا تم تصعيد فولكر على حلبة نزال مع النظام الحاكم، وتم جعله عدوا شخصيا للوطن، تماما كما حدث مع أوكامبو المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية أيام البشير، في اختزال مخل للمشكلة السودانية، وفي تجاهل للمؤسسات التي يمثلها الرجلان.
هروب إلى الأمام وإعادة سالبة لسيناريو أوكامبو الذي كان محل الترحيب من نظام الإنقاذ أولا قبل أن يصبح العدو الشخصي الأكبر عقب مذكرة التوقيف ضد البشير. والتوجه الآن هو تحويل الغضبة إلى فولكر بيرتس، رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس)، والذي لا نعرف نواياه المضمرة في قلبه، ولا يهمنا من أمره الشخصي شيء، لكننا نعرف أنه يمثل مؤسسة دولية، يتكلم باسمها، ويعبر عن رأيها، ويسعى بحسب مهامه الموكلة له إلى إنجاز عمله بالوجه المطلوب.
التململ الواضح تجاه مهمة فولكر من النظام الحالي تصاعد مجددا إلى القمة بعد الإحاطة التي قدمها الرجل مؤخرا إلى مجلس الأمن، والتي شدد فيها على أن الأمر في الشأن السوداني متروك للسودانيين للاتفاق على مخرج من الأزمة التي وصفها بأنها محلية، ومن غير الممكن الخروج منها إلا بجهد السودانيين أنفسهم.
إلى هنا والكلام مقبول لدى قادة النظام، هكذا نفترض، فهم يتحدثون بنفس اللغة، لكن قاصمة الظهر جاءت حين شدد فولكر على ضرورة محاسبة المسؤولين عن العنف ضد المتظاهرين إذا كانت السلطات تريد بناء الثقة، مطالبا بإنهاء جميع أعمال العنف، وإطلاق سراح باقي المعتقلين، ووقف الاعتقالات التعسفية، ورفع حالة الطوارئ.
ومع ما أحدثه كلام فولكر من غضب ورفض، تم رفع حالة الطوارئ بإعلان صريح رغم تشكك المتشككين فيه، لكن محاسبة المسؤولين عن العنف ضد المتظاهرين يبدو أنها السبب في إثارة حفيظة النظام المتوجس من فولكر، فجاء تصريح رئيس مجلس السيادة الفريق أول البرهان بأن فولكر يجب أن يكون مسهلا وليس وسيطا، عقب تهديد سابق منه بطرد الرجل من السودان، ثم ارتفعت الإشارات إلى تدخل المسؤول الأممي في الشأن السوداني بشكل يتخطى مهامه، رغم يقينهم بأن الرجل لم يتحدث عن رؤية شخصية بل عن حصيلة وافرة من اللقاءات والأفكار والمطالبات التي جمعها من أصحاب الشأن في السودان من مختلف التيارات والأطياف.
إن التناول الحصيف للخلافات لا يتم عبر تحشيد الناس ضد المؤسسات المدعومة من العالم كما كان يفعل نظام البشير، بل يكون بالاستفادة من كل الملاحظات، والاقتراب من الممكن، ومحاولة فهم الآخر بكل تجرد، والسعي لكسب ثقة المجتمع الدولي الذي لا يمكننا إنكار أهميته لنا، وقبل ذلك التراضي الداخلي والمحاسبة العادلة والشفافة لكل مرتكب لجريمة ضد الوطن وإنسانه.
ستظل هذه الإضاءات هي الأسلوب الأمثل للخروج بالوطن من حالة التشرذم الحاد التي بلغت ذروتها بانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر .. وإلا فالمزيد من الانسدادات في شرايين الوطن مرشحة للبروز، وقد تؤدي إلى تردي البلاد في وهدة لن تسلم بعدها أبدا.
وهذا هو مكمن التحدي.
shatarabi@hotmail.com