التزامن الذي حدث بين استقالة والي البحر الأحمر علي أدروب، ورئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة في يوم واحد (الثلاثاء 7 يونيو – حزيران 2022)، يعكس توقيتاً ذا دلالة. وهو في تقديرنا نهاية لخطة تفكيك ناجحة اشتغل عليها محمد حمدان حميدتي ضد المجلس منذ ما قبل رمضان.
في بيان الاستقالة الذي ينسب للناظر ترك؛ ثمة ما يلمح إلى ذلك، حيث شهدنا استقالة بعض المؤثرين في المجلس، كما رأينا حرب التصريحات المتبادلة بين قادة المجلس والاتهامات والتخوين، على خلفية منح السيارات الجديدة التي أهداها حميدتي للعمد في مجلس ترك (وكذلك في المجلس الأعلى للإدارة الأهلية بشرق السودان).
في تقديرنا إن حميدتي حرم قادة المجلس في البحر الأحمر من تذوق طعم النصر بإقالة الوالي الذي عينه هو، وفرحوا هم بإقالته (التي كان من أسبابها العنصرية: اعتراضهم على اجتماع الوالي بمكون من بني عامر والحباب ساهم بمبلغ مالي لحل مشكلة مياه بورتسودان، حيث أشاع أنصار ترك – وترك ذاته – في الإعلام والوسائط؛ أن من ضمن الذين استقبلهم والي البحر الأحمر في ذلك الاجتماع شخص متورط في جريمة قتل – يقصدون الاستاذ حامد محمد آدم أدالة: رئيس جمعية عمال الشحن والتفريغ خارج البواخر – وأنه شارك في قتل شخص اسمه أركة ينتمي لمكون البداويت، فيما الحقيقة أن البلاغ الذي تم فيه اتهام السيد حامد محمد آدم أدالة – وكان معه في لائحة الاتهام: د. آمنة ضرار ، تراجي مصطفى، ابراهيم موسى حسين ضرار وآخرين – كان بلاغاً بتهمة إقامة تجمع عام في ظرف أمني حساس، خرجوا بعد ذلك بضمانات ثم تم شطب البلاغ ضدهم وحتى بعد الاستئناف)
وبما أن كلاً من والي البحر الأحمر والناظر ترك محسوبين على حميدتي فإن حميدتي لم يكن ليقبل بإقالة واليه إلا بثمن غالٍ هو ازاحة ترك عن رأس المجلس الأعلى لنظارات البجا.
بطبيعة الحال لا يمكننا فصل حدث الاستقالة عن الترتيبات التي يتم الإعداد لها في ظل الحوار الذي سينعقد اليوم في الخرطوم(الأربعاء 8 يونيو2022) والنتائج المحتملة التي ستترتب عنه في ظل غياب المجلس المركزي للحرية والتغيير ولجان المقاومة عن مائدة الحوار ،حيث يعتبر ذلك الغياب نقطة قوية لصالح العسكر لإخراج حكومة جديدة – إذا نجح الحوار وقبلت الولايات المتحدة بنتائجه – وبالتالي إذا ما بدا هذا السيناريو ممكناً في الأيام القادمة؛ فإن إعادة تعويم سلطة العسكر الناعمة سيلزم منها: كنس الأدوات القديمة والأذرع المزعجة منتهية الصلاحية؛ مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا في شرق السودان. فالعسكر يعلمون أن أي اعادة تعويم لهم في الخارج تقتضي إعادة تحسين صورتهم في الداخل وضمن هذه السياق، ربما، تأتي استقالة ترك من على رأس المجلس للإجهاز على هذا الجسم العبثي والمزعج في شرق السودان.
تداعيات الاستقالة
ـــــــــــــــــــــــــ
إذا صح هذه الافتراض فسنرى تداعيات أخرى لاستقالة ترك، التي ليس من ضمن أسباب توقيتها (كما يظن محمد حامد جمعة نوار): عدم انجاز المهمة الأولى لمجلس ترك أي إلغاء مسار شرق السودان، لأن كل متأمل محايد في اتفاقية مسار شرق السودان سيدرك تماماً أنها لا تتضمن أي سبب وجيه لإلغائها سوى الأسباب العنصرية في شروط المجلس (وهي أسباب يتصل جزء منها بعقائد بدوية قديمة للبداويت في تقديس الأرض يوظفها قادة المجلس من أمثال المدعو سيد علي أبو آمنة بخبث لإثارة عواطف عوام البجا من أجل مكاسب سياسوية رخيصة فيصورون لأولئك العوام؛ أن قادة المسار أجانب سيستولون على أرض البجا – فيما الحقيقة أن قادة المسار هم أيضاً من البجا -وأن اتفاقية المسار نصيبها هو فقط 30% من السلطة والثروة في شرق السودان يتم تقسيمها على كافة أبناء البجا).
هذه التداعيات ستعكس أهمية ما كان يمثله الناظر ترك بالنسبة لهذا المجلس وهويته والتيسيرات التي كان يقدمها لقادته. وفي تقديرنا إن هناك الكثير الذي سيكون في حكم الممتنع على قادة المجلس مع خروج ترك من رئاسته، منها قفل أبواب مكاتب السلطة في الخرطوم أمام قادة المجلس، ومنها وقف الجرايات الحكومية التي كانت تمنح لهم نظير العمل في صناعة الفوضى بشرق السودان، تحت سمع وبصر البرهان وحميدتي، وهذا ما دل عليه عمل والي البحر الأحمر المستقبل، الذي كان قد اتخذ قراراً بمنع الجراية من خزينة الولاية عن قادة المجلس، والجراية؛ تصاديق حكومية ونثريات كان يتم انفاقها على حراكهم ويصرف منها على أعمالهم وحلهم وترحالهم وسكنهم في الخرطوم (كل ذلك كان على حساب خزينة ولاية البحر الأحمر منذ ولاية الوالي الذي كان متواطئاً معهم في حكومة حمدوك؛ عبد الله شنقراي) ومنها غياب القدرة على الحشد في التتريس خصوصاً في مناطق الهدندوة، التي تمتد من غرب سواكن إلى حدود شرق نهر عطبرة فأوامر ترك مطاعة عند عموم قبائل الهدندوة، ومنها العمل على سحب القيادات المؤثرة من المجلس، وكذلك ربما نشهد اعتقالات لقادة المجلس الأعلى لأن انسحاب ترك منه يسحب عنهم غطاء الحماية.
ولعل أكثر ما يعكس أن انسحاب ترك من رئاسة المجلس هو نتيجة لفشل المجلس ذاته لما ينطوي عليه من شعارات وأفكار قبلية عنصرية غير قابلة للصرف والتسويق في السياسة، هو ما ذكره ترك في مذكرة استقالته المنسوبة إليه حين قال: ” وصبرنا على الكثير من المؤامرات والدسائس من باب – وربما يقصد من بعض – الإخوة من عضوية المجلس وقد حاولنا معالجة هذا الأمر في عدة لقاءات منذ نهاية شهر رمضان وبعد عيد الفطر المبارك وآخر الاجتماعات التي تمت بالخرطوم .. واستمرار النهج المنحرف أصبحت قناعتي التامة الأمر أصبح مستحيلا”
كما نلمس ذلك الغضب الذي كتبه بعض صحفيي أبناء البداويت في الفيسبوك مثل (عبد القادر باكاش) – الذي يبدو أنه سحب البوست بعد ذلك – قائلاً : ” ترك .. نحروه أم انتحر .. سقط رجل ولم تسقط قضية”. وقال الأمين السياسي للمجلس سيد علي أبو آمنة على صفحته في فيسبوك : ” استقالة الناظر ترق قرار محزن لا شك، و أمر جلل لا نريده وأرى إن علينا رفضه وإثناءه عنه وبلا مجاملة مع نصح الناظر بمراجعة و تقويم مواقفه الأخيرة، وهو امر جاء في توقيت غير مناسب وربما يصب ذلك – بوعينا أو بغير وعينا – في دعم مخططات المساريين السياديين لتفتيت أو أضعاف المجلس ” كما قال سيد أبو آمنة في بوست آخر على صفحته في الفيسبوك ” لتفتيت المجلس قرر القائمون على الأمر إشراك الناظر عبر التنسيقية بعد تقديمه للاستقالة من المجلس”.
أما الاستاذ الصحافي (حسن أبوزينب) قال عن خبر استقالة ترك: ” خبر اعتبره نقطة تحول في مسار وتاريخ القضية البجاوية في منعطف خطير ومرحلة مفصلية المؤسف فيه أن الاستقالة ورائها كما أكد ترك نفسه الصراع على السلطة بين الإخوة الأعداء”
كل تلك التصريحات تدل بوضوح على أن التناقضات الذاتية بلغت حداً أعاقت به قدرة المجلس على الاستمرار في أداء مهمته التي طالما تحدثنا عنها طويلاً في أكثر من مقال بأنها رؤية قبائلية لجسم أهلي لا يمكنه من خلالها التحرك في رمال السياسة وتعقيداتها، فضلاً عن أن المجلس هو امتداد لتعاطي السياسة على الطريقة التي وظفها الكيزان (نظام البشير) في تسييس القبائل لأنها طريقة معطوبة مليئة بالتناقضات.
وكان ذلك واضحاً جداً في عدم قبول أي حكومة سواءً أكانت حكومة حمدوك أم حكومة الانقلابيين الراهنة لمقررات مؤتمر سنكات التي هي بنود عنصرية اقصائية لا تقبلها أي حكومة تحترم بديهيات دستورها، وأكبر دليل على رفض بنود المجلس الأعلى لنظارات البجا؛ ما جاء على صفحة المجلس في الفيسبوك من بيان كتبه الأمين السياسي للمجلس سيد أبو آمنة جاء فيه رفض الآلية الثلاثية لمشاركتهم في الحوار الذي ترعاه بين القوى السياسية السودانية منذ اليوم (الأربعاء 8 يونيو 2022).
عطفاً على ذلك، لا نظن أن التقدير الذي يرى به البعض أن مغادرة الناظر ترك لرئاسة المجلس سيكون سبباً في حصوله على لمنصب أعلى، كعضوية مجلس السيادة، مثلاً، فحتى لو افترضنا ذلك، فإنه لن يكون له علاقة بحقيقة أن المجلس الأعلى لنظارات البجا قد أصبح اليوم جسماً بلا رأس وكياناً مشلولاً نتيجة لتناقضاته الذاتية. كما أن أي حكومة جديدة نتيجة لمخرجات الحوار – إن حدثت – فإنه سيتعين عليها تعيين أعضاء مجلس سيادة ليسوا إقصائيتين، أو مثيرين للجدل كالناظر ترك؛ إذ أن التصريحات الإقصائية والازدرائية والعنصرية للناظر ترك بحق مكون “بني عامر والحباب” التي هي جزء من شرق السودان؛ هي مؤهلات لا تؤهله إلى عضوية مجلس سيادة.
بين النظارة والسياسة
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الناظر محمد محمد الأمين ترك ناظر أكبر قبيلة في شرق السودان (الهدندوة) ولها تاريخ عريق لكنه ظنَّ واهماً أن مكانه في النظارة (حيث التوقير والاحترام والمرجعية السيادية والتاريخية) هو نفس مكانه في السياسة (حيث الانتقاد والاعتراض وحتى الشتم أحياناً) وهو أمر عسير على ناظر قبيلة يضعه باستمرار في موقف تناقض كبير لا ينعكس أذاه على ذاته ونفسه فحسب بل على قبيلته التي تغضب لغضبه في السياسة كما تغضب لغضبه في النظارة وهنا يكمن الشر المستطير بعينه والذي رأيناه عينات منه خلال السنوات الماضية.
مظلومية البجا
ـــــــــــــــــــــ
بالرغم من الطريقة المعطوبة حكماً وممارسةً للمنظور القبائلي لمجلس ترك في تعاطي السياسة بحسب الوصفة المسمومة التي صممها الكيزان عبر تسييس القبائل، وهي طريقة نهاياتها تؤول إلى الخراب، إلا أن للبجا قضية عادلة بكل ما تعنيه العدالة من معنى، ومظلومية البجا التاريخية خير شاهد على ظلم نخب المركز في الخرطوم لمناطق الهامش السوداني منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.
وللأسف بدلاً من أن يتعظ قادة المجلس الأعلى من عبر الاقصاء والتهميش الذي مورس ضد البجا أجمعين، عبر الحكومات المتعاقبة للمركز منذ العام 1956، ها نحن نراهم يمارسون اقصاءً آخر مع بجا آخرين (بني عامر والحباب الذين هم الشق الثاني من قومية البجا التاريخية) فقادة المجلس ينكرون على مكون بني عامر والحباب بجاويته فقط لمجرد أنهم لا يرغبون في أن يرونهم بجا مثلهم؟! دون أي استناد إلى أي مرجع علمي أو تاريخي في القديم والحديث يتضمن نفياً لبني عامر والحباب من مسمى البجا، حتى أصبح انكارهم العنصري ذاك عنصر تشويش لبقية الشعب السوداني الذي ظل أصلا يعيش مرحلة تجهيل منذ ثلاثين سنة دمر فيها الكيزان كل الأسس السلمية للمعرفة بالتاريخ. ويكفي أن أول مؤتمر للبجا في العام 1958 كان عبارة عن انجاز تاريخي عظيم للبجا بشقيهم في أول كيان سياسي لهم في التاريخ الحديث حيث شارك قيادات من مكون بني عامر والحباب في تأسيس المؤتمر وتقديم أوراق ذلك المؤتمر إلى جانب البداويت بقيادة د. (طه عثمان بِلَيَّهْ) ورفاقه – رحمهم الله –