ازمة الانقلاب العسكري الحالية كشفت عن قصور كبير في الفكر ( الجمعي ) للمناهضين للإنقلاب من كل قوى الثورة دون استثناء , هذا القصور يُصعّب من ايجاد رؤية مشتركة تجمع و توحد هذه القوى تجاه الانقلاب المترنح أمامهم , فمثلا نجد ان الحرية و التغيير و لجان المقاومة و الحزب الشيوعي و تجمع المهنيين يتفقون على ( اسقاط او انهاء الانقلاب) , و عدم الثقة او الشراكة في المكون العسكري المتمثل في المجلس العسكري , و المناداة بإيقاف القتل و الاعتقال و رفع حالة الطوارئ , و المحاسبة وعدم الافلات من العقاب … الخ
في حين ان الانقلاب العسكري منشق على نفسه و لا يكاد يتفق الا على النجاة من المحاسبة و الافلات من العقاب , فالبرهان و عسكره اصبح بينهم و بين دقلو و جنجويده هاوية كبيرة تجري حمم ملتهبة في قاعها , و يواجهان سخط دولي حتى من حلفائهم لأسباب سأشرحها و أذكرها …
الحركات المسلحة و كل القوى التي اختارت جانب الانقلاب هي الأن تحت رحمة ما ستسفر عنه الايام , ولن يكون لها اعتراض على ما يقرره العسكر من تسليم سلطة او انهاء انقلاب او ما تسمّه …
هذا يُعيدنا إلى المكاسب التي تقبع أمام قوى الثورة و مناقشة الحل الذي يحفظ للجميع ما يريد , دون تخوين او شقاق , و شرح للفخاخ التي ينصبها العسكر الآن , و كيفية عدم الوقوع فيها .
1- من أول المكاسب لقوى الثورة هي تحييد الداعميين الإقليميين للإنقلاب , وهو أمر اسهم فيه غباء الانقلابيين أنفسهم , فقد استفاقت مصر للمرة الثانية في تاريخها على أن هذا الانقلاب هو انقلاب للأخوان المسلمين على السلطة , و ليس مجرد انقلاب عسكري , وهي تشعر بالخيانة و انه قد تم استغبائها وخداعها , و يظهر هذا بجلاء في البرود و الجفاء من قبل الإدارة المصرية تجاه الانقلاب مؤخرا , مع توقف زيارة المسؤوليين الأمنيين و العسكريين المصريين للسودان , و لا يختلف موقف الامارات او السعودية من موقف مصر من الاخوان المسلمين , الذي كشفوا كل اوراقهم فرحا بهذا الانقلاب الفاشل , و الشق الثاني هو استمرارية الدعم الأمريكي السياسي لهذه الجهود , ففي ظل حرب اوكرانيا , ظلت مؤسسات القرار الأمريكية , و من قبل الانقلاب تدعم التحول المدني الديمقراطي , و بعد الخطوة الانتحارية في حضن روسيا التي قام بها زعيم الجنجويد , انتبهت أمريكا لزحف روسيا إلى افريقيا عبر السودان الذي يعتبر بوابة استراتيجية و يمثل أهمية قصوى للداعمين الاقليميين …
و قد اشرت سابقا أن السياسة تعني أن تكسب بأقل مجهود و دون خسائر , و أن تكسب معسكر الاقليم و امريكا في صفك , سيساهم في اضعاف الانقلاب و جعله يخسر ركيزته الوحيدة التي يعتمد عليها .
2- انهاء او اسقاط الانقلاب العسكري بصورة سلمية , سيعني انه و لأول مرة في تاريخ السودان سيتم تسليم السلطة من قبل من قاموا بإنقلاب عسكري , و كتابة نهاية فعلية لفصول الحكم العسكري الايدلوجي او الدكتاتوري , وهو نجاح سيُحسب لكل قوى الثورة و في مقدمتها لجان المقاومة , و سيكون حتى في مصلحة المؤسسة العسكرية و مستقبلها , و سينعكس ايجابا في الحياة السياسية المدنية.
3- ما ستترتب عليه الخطوة لما بعد انهاء او اسقاط الانقلاب سيكون فيها التنافس او الصراع مدنيا خالصا في جو ديمقراطي تكون فيه الغلبة لمن يملك رؤية افضل , و مساندة شعبية يقررها الناس , دون الخوف من تغول شخص ببندقيته لتحويل مسار العملية السياسية لإتجاه بقوة السلاح …
أمام هذه المكاسب هنالك فخاخ نصبها العسكر للحيلولة دون الوصول إليها من جانب المدنيين , و أول فخ هو فخ تقسيم او قطع الطريق أمام توحد قوى الثورة بمبدأ فرّق تسد , فالقبول بالجلوس مع قوى الحرية و التغيير يعني ان تُغلق لجان المقاومة و الحزب الشيوعي و تجمع المهنيين أبوابها في وجهها و جعلها تقف وحيدة , في أهم توقيت للتوحد على الرؤية و لو اختلفت الوسائل , وهو فخ مباشر و بسيط , و الجميع يراه , لكن ماهو الحل لتفاديه ؟
الحل هو ان تقبل قوى الثورة او تقر و تسلم بإختلاف وسائلها في الوصول إلى الغاية او الـ End Game , و أن هذا لا يقدح في ثورية او صدق احد هذه المكونات, وأن التشاور و التناصح و تبادل الاراء من أجل تقوية التيار المناهض للإنقلاب , سيعجّل بالوصول إلى الغاية المرجوة , الا وهي تنحي العسكريين من السلطة و انهاء ما ترتب عليه من انقلاب …
⭕️ لكن أهم الحلول الأن لتفادي مسألة اللاءات الثلاثة و التي أؤمن بها شخصيا هي ان تتخذ قوى الحرية و التغيير و بقية قوى الثورة موقفا واحدا بأن يذهب البرهان من رئاسة الجيش , و يحال للتقاعد فورا …
فذهاب البرهان لوحده يعني انهيار كل مكونات الانقلاب من جنجويد و كيزان و لجنة أمنية , فالرجل هو مصدر كل الشرور , و ما تسبب به من اضرار للدول الاقليمية و المحاور و اسرائيل , و للعملية السياسية و جرائم القتل المروعة , و الانقلابات العسكرية , يجعله كبشا أسود , و معرقل رئيسي لجميع الجهود , وهو سيصر على عدم تسليم السلطة حتى و لو اجتمع كل أهل السودان في صعيد واحد طالما لم يجد ما ينقذ به نفسه , وهو أمر طبيعي و مفهوم …
و بذهابه ستفهم قوات الشعب المسلحة السودانية انها مازالت مؤسسة من مؤسسات الدولة , لا يميزها شيء , و لا يعاديها احد دونا عن بقية المؤسسات , و هنا يمكن للجان المقاومة ان تتنفس الصعداء , و تتحدث مع هذه المؤسسة و تلزمها بضرورة الابتعاد عن السلطة بل و كتابة مواثيق او دستور يؤمن ذلك , وهذا سيلغي اللاءات المتبقية بعد خروج العسكر من السلطة و ذهابهم للثكنات , ثم تبدأ العملية السياسية و ترك القرار للشعب في الالتفاف حول قضاياه الاساسية , سواء عبر ميثاق سلطة الشعب او اي ميثاق سياسي جديد …
و انا على ثقة بأن كل من يُقدّم مصلحة البلاد اليوم لإنقاذها من براثن العسكر و الحركات و الجنجويد و شبح الفقر , و الانقسام و الحروب الذي يلوح في الأفق , سيحصد في المستقبل القريب ثقة كل السودانيين و رضاهم و دعمهم و مساندتهم له , فالشعب السوداني يسبق كل شعوب المنطقة من ناحية الوعي السياسي , و هو الان شعب شاب و متنور وقوي و مصادم و يعرف كيف يقتلع حقه , و يجلس في موقع يحسده عليه العالم , و يمكنه أن يكون ما يشاء ….
صدق المواقف السياسية يكمن في الا يخالف السياسيون رغبة الشعب , و الا يدعي العسكر الوصاية على أحد , و أن ينصرف كل إلى عمله من أجل السودان و مصلحته العليا …
فالسودان هو الأهم
وسلامته هي الضرورة
و الغاية قبل كل شيء
أو أحد …
و الحل الذي يرضي الكل
يجب الا يخشاه الجميع .
وقد انتهى زمن حكم العسكر إلى الأبد
و لن تكون هنالك شراكة او تفاوض او شرعية لأي شخص يفرض نفسه على السودانيين ….
مدنيا كان او عسكريا …
فالسلطة سلطة شعب…
لم يفهم .