في الحافلة (الكوستر) المتجهة إلى المناقل عبر طريق مدني، تجادل الركاب مع السائق بشأن شرائط الكاست، فبعض الركاب كانوا يريدون سماع الملكة انصاف مدني، وبعض آخر يريد سماع الأمين عبد الغفار، وفتاة في مقعد النص (شديدة التهذيب) طلبت عصام محمد نور..وثلاثة آخرون طلبوا سماع ود البكري..لكن رجلا ملتحيا وبجانبه فتاة ترتدي نقابا قالا، في صوت واحد متناغم، الغناء حرام شرعا، وأشارا إلى ما قاله ابن باز وابن عثمين، واقترحا على سائق الحافلة أن يضع شريطا للشيخ محمد سيد حاج، أيدهم نفر غير قليل. وقال طالب جامعي بدا عليه حماس طلاب أركان النقاش، محمد سيد حاج رجل صوفي لأنه يقرأ على الناس من مدارج السالكين، لكن الرجل الملتحي انبرى له قائلا: ومن قال لك إن محمد سيد صوفي، محمد سيد من أتباع السلف الصالح، وصاحب مدارج السالكين رجل سلفي على العقيدة الصحيحة، وتلاحا في الكلام، و قام المتلحي وكف يد جلابيته وأظهر ساعده الأيمن وجعل يلوح بسبابته، فانتفض الطالب وقال لسائق الحافلة بالله عليك ما تشغل أي شريط لا محمد سيد ولا أولاد البرعي خلينا نكون صانين أحسن… لكن راكبا أنيقا يرتدي نظارة طبية بنية وقميصا أبيض ناصع البياض وبنطلونا أسود حالك السواد رفع يده، وأخرج من جوفه صوتا هادئا وقال في كلمات مضبوطه ومخارج صوت واضحة: يأ أخوانا..يا أخوانا لو سمحتو، لو سمحتو دقيقة واحدة ممكن! رآن الصمت على ركاب الكوستر وكأن على روؤسهم الطير، وارهفوا السمع لهذا الصوت الآمر. قال، (وقد بدا مثقفا ومهتما بالفن والسياسة والاجتماع والنفس والقانون)، يا جماعة عايزين تستمعوا من غير تحيز، استمعوا لي محمد وردي لأنه فنان أفريقيا الأول. فانبرى له أحد الركاب وكان يحمل في يده صحيفة، وقد بدا أكثر ثقافة ومعرفة بالفن والسياسة والعلاقات الدولية، قائلا: منو القال ليك فنان أفريقيا الأول، ومنو من الأفارقة جا السودان وقال ليكم دا فنانا الأول…وهل يعرفه ناس سيراليون وموزمبيق وملاوي وليبيريا وبتسوانا. وهاجت الحافلة وماجت من جديد…وواصل صاحب الصحيفة بصوت أقوي وأشد: هل غنى وردي بالسواحيلي أو بلغة الزولو أو اللينغالا أو اليوربا أو البمبارية أو المانديه أو لغة البايا أو الزاندي أو حتى عربي جوبا…. وأضاف بصوت أشد وأعلى، ياخ أنتو شابكننا وردي فنان أفريقيا، والبشير أسد أفريقيا، وفلانة ديك غزالة أفريقيا…راكب من المقعد الخلفي قال: إحنا بدلا من أن نكون أول الأفارقة فضلنا أن نكون آخر العرب، ثم أنطوى في مقعده. رفع صاحب الصحيفة رأسه سائلا: الكلام دا القالوا منو؟ رد الراكب المنطوي في مقعده..قاله الزعيم..الذي كان يتحدث الإنجليزية أحسن من الإنجليز أنفسهم..وثار مرة ثانية بركان من الجدل وحمم من المناقشات.
جاري في المقعد المجاور لشباك الحافلة، كان ينظر إلى الخارج ويقرأ اللافتات الموضوعة على الطريق بصوت عال: الشقلة عوج الدرب، التكينة …فداسي …