لو أنني تفرغت لعمل بحثي جاد، سيكون من أوجب واجباتي البحثية إعداد دراسة حول تعاطي السودانيين في المنافي والشتات حيال ما يدور في السودان على الأقل في المنحيين السياسي والإجتماعي!
أهم ما يحمسني للمجهود البحثي هو أنني قد تلمستُ خيوطًا أولية، أوحت لي كما لو أن هناك ثمة مشتركات بين أصحاب الجغرافيا الواحدة في الشتات، كما أن السبب الأبرز الذي يقف وراء الهجرة أو اللجوء أو الإغتراب، بجانب تمايزات أخرى تضعهم ضمن مواقف مستنسخة.. بما يوحي بأن العقل الناظم لتفاعلهم أحادي لا يخرج عن تبني مواقف بعينها أو مُسخّر لخدمة أجندة وموضوعات وقضايا بعينها (حق المضيف على الضيف). بالتالي تبني خطابات وتصورات مُستلفة ومصنوعة مسبقًا!
خذ مثلاً عينات عشوائية: ستجد تقريبًا أن غالبية من يؤيدون حمدوك من سودانيي المنافي يعيشون في أمريكا أو كندا أو أستراليا، أي أنهم ضمن جغرافيا منافٍ بعيدة، لكنهم يقطنون دولًا جبارة وهم ضمن نظام قاهر تتجلى فيه السلطة في كل شئٍ تقريباً.. وهو ما صنع تركيبة نفسية هشة متوسلة تنزع لخيار المخلص الرحيم لطالما عانوا ويلات القهر في أنظمة رأسمالية متطرفة أمتصت قوة عملهم بلا رأفة. وهنا ننبه إلى أن ثمة تمايز كائن بين من هاجروا عبر اللوتري أو سافروا لغرض استكمال مسيرتهم الأكاديمية!
بإمكانك كذلك الإنتقال إلى رقعة أخرى من جغرافيا الكوكب الفسيح، لتلاحظ سلوك السوداني الذي عاش في بريطانيا إنه يتمثل الثقافة الأنجلوسكسونية بشكلٍ واضح خصوصًا لو أن أباه نفسه كان مهاجرًا، ويكون الابن بذلك قد تلقى تعليمه الأولي والمتوسط (ما قبل الجامعي) في بريطانيا. تجده يعاني صراع مع جذره المتمثل في أبيه الذي عاش قسطًا من حياته في السودان لكنه هاجر في مطلع التسعينيات لأنه -مثلًا- فُصل عن عمله مع وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم. وهنا نلاحظ التشوه المرير.. أبناء منسلخون عن وجدان بلدهم الأم، وأباء لا يزالون يحملون إرث المعارضة الكلاسيكية القديمة؛ ينظرون للمشكل السوداني بسذاجة وغباء كما ولو أنهم يتعاطون معه أيام كانوا طلابًا في داخلية البركس!
في بريطانيا جيوب يسار سوداني قديم، أعتقد أنهم ممن تشردوا في عهد نميري أو نظام الإنقاذ..بالطبع في المنفى جرى تتجينهم وإعادة إنتاجهم ضمن نسق وإطار ليبرالي/ نيوليبرالي.
نشط أبناء بريطانيا السود في دعم حمدوك أيضا، وثمة علاقة حب وطيدة جمعتهم على محبة “تجمع المهنيين”! وكانوا ممن تولوا نشر البروباغندا حول قوته الخارقة على أيام مجده. وهنا نضع استفهام كبير ونمضي!
لا ننسى كذلك خلال الأحداث الماضية بروز كوادر أكاديمية رفيعة ممن تلقوا تعليمهم فوق الجامعي بمؤسسات علمية مرموقة؛ كانوا ضمن آلة الدعاية المضللة، ونشطوا في دعم السياسات الإقتصادية للبدوي، لتمرير قرارات رفع الدعم وتعويم العملة.. ونجحوا عبر اللغة الأكاديمية في تمرير الخديعة.
أما عن سودانيي فرنسا، فهم الأكثر تشوهًا من بين مجتمعات الشتات فيما يبدو لي.. وغالبية من هم هناك دخلوا عبر بوابات اللجوء السياسي، كما أن المشروع الفرانكفوني الإمبريالي عمد إلى إستقبال الأغلبية الساحقة منهم من إقليم دارفور بالتحديد. وهذا قد يكون مفهومًا لجهة أن فرنسا تعتبر أن دارفور تقع ضمن جغرافيا السودان الفرنسي.
نلاحظ نشاط أبناء فرنسا الجدد في دعمهم للخطابات العرقية، وحملات الحريات الدينية، السلوكية… أي خطابات الهوية الجزئية على وجه العموم. وبإمكانك ملاحظة أن غالبيتهم يشاركون في كل حملة تدعم التطبيـع مثلًا، أي أنهم يناهضون بجلاء القضايا المبدئية للشعوب!
وكل ما ذهبت شمالًا.. نحو أوروبا الأسكندنافية ستجد تناول يوتوبي رومانتيكي لما تسمى “ثورة ديسمبر” من قبل سودانيي السويد والنرويج. تستهويهم حملات التضامن، والوقفات الإحتجاجية، والجداريات، الألوان، حملات مارس الأبيض، صورة لطفل في عمر السابعة يعبر عن كرهه للجنجويد، لقطات الدرون للمواكب البهيجة، لديهم إعتقاد غنوصي بأن أولاد لجان المقاومة قوم أخيار في هيئة ملائكة بأجنحة بيضاء ولباسات وردية.. إلخ…
أما السودانيون في منطقة الخليج.. فبحكم موقعهم واتصالهم شبه اليومي مع سودانيي الداخل فنلاحظ قربهم أكثر من الواقع المعاش.. لكن ثمة فوارق بين من هم في السعودية أو الإمارات أو قطر. ولأوضاعهم ومراكزهم الطبقية دور واضح في طبيعة اتصالهم وعمق معرفتهم بما يجري على الأرض.