تسارعت الأحداث في السودان من أجل حل الأزمة السياسية السودانية، من خلال حدثين: الأول كانت جلسة حوار الثلاثية الدولية التي قاطعتها بعض القوى السياسية المؤثرة في الشارع، و الثاني جلسة التفاوض بين وفد من قوى الحرية و التغيير و المكون العسكري. و التي رتبت لها مبعوثة وزارة الخارجية الأمريكية مولي في و السفير السعودي، و بالفعل أن حالة الاحتقان السياسي الجارية في البلاد تحتاج لعصف ذهني لعقل يكون خارج دائرة الأزمة الجارية، لذلك ليس غريبا أن تقدم المبعوثة الأمريكية مبادرة لالتقاء بين قوى الحرية و التغيير و المكون العسكري، هو لقاء تفاوضي كامل الدسم ( إذا سمي لقاء غير رسمي أو تفاكري) و عندما بعثت الولايات المتحدة مولي في كانت على يقين أن الأزمة في السودان تحتاج لشخص لديه خبرة في إدارة الصراع تحدث أختراقا في جدار الأزمة. و لذلك جاءت مبادرتها بالقاء بين وفد الحرية و التغيير و العسكري بهدف كسر الحاجز النفسي السائد الذي صنعته الاءات الثلاثة، و التفاوض ليس التنازل عن المبادئ.
كان المتوقع: أن قوى الحرية و التغيير هي التي تقوم بإحداث هذا الاختراق دون أي مبادرة من جهة خارجية، لكي تستطيع هي أن تدير الأزمة بالصورة التي تحقق الأهداف الوطنية، و كانت تعلم قيادات قوى الحرية أن الاءات الثلاثة هي صناعة قوى سياسية و هي نشرتها في الشارع الغاضب من الانقلاب، و الهدف منها هي أن تعطل كل مبادرات تأتي من القوى السياسية الآخرى، حتى يتثنى لها أن تدير الأزمة السياسية بالصورة التي تحقق بها مكاسب حزبية ضيقة. و الغريب استكانت القوى السياسية لذلك، الأمر الذي جعلها تعطل التفكير في استخدام العقل لإحداث أختراق في الأزمة.
الكل يحترم النضال المستمر و المتصاعد للجان المقاومة في كل مدن السودان، و التي دفعت فيه مهرا غاليا من الدماء للوصول للدولة المدنية الديمقراطية، و مهمة القوى السياسية ان تستفيد من هذا النضال، و اداة الضغط القوية من قبل الشارع، و تحول المطالب إلي إنجازات. و بالتالي أن القوى السياسية هي التي يقع عليها عبء إدارة الأزمة، و هي التي تحدد أدواتها، و هي التي تفرق بين العمل الاستراتيجي المطلوب و التكتيك الذي يخدم الوصول للهدف. أن أقدام قوى الحرية و التغيير للتفاوض حول الأزمة و تقديم رؤيتها يجب الوقوف معها في صف واحد و في المقدمة، و تأييدها بقوة.
أن مقولة طه عثمان في المؤتمر الصحفي، و كررها ياسر عرمان، أن قوى الحرية والتغيير تريد إنها الانقلاب، و لا تريد العودة لمرحلة ما قبل الانقلاب، مدخل قوى لإقناع الشارع أن الخطوة القادمة هي تأسيس نظام جديد يشرع بصورة مباشرة في تكوين مؤسسات عملية الانتقال التي تتطلب الفصل بين السلطات، و أن يكون هناك مؤسسة تشريعية هي المناط بها العملية التشريعية و مؤسسات عدلية قوية و المفوضيات المطلوبة للانتخابات و الخدمة المدنية و السلام و العدالة الانتقالية، و الشروع في تفكيك دولة الحزب لمصلحة التعددية السياسية وفقا للقانون و برعاية من مؤسساته العدلية. و أن لا تتهيب القيادات من الدخول في صراع سياسي بين القوى الديمقراطية و التي لا ترغب في الديمقراطية و التي تناور.
أن عملية الانتقال و التحول الديمقراطي من أصعب مراحل العمل السياسي في المجتمعات التي تريد أن تنتقل من الشمولية للديمقراطية، حيث كل قوى تحاول أن تفرض شروطها على الآخرين بشتى الصور، باعتبارها هي الوصي على العملية السياسية، و يجب الانصياع لها بالصورة الكاملة، رغم أن تجارب السياسية في السودان منذ انقلاب عبود، و كل النظم التي جاءت بعده، أكدت أن واحدة من أسباب الفشل السياسي في البلاد هي إدعاء الوصايا. و يجب على القوى السياسية أن تدرك أن الديمقراطية مهمتها أن تنظم هذا الصراع من خلال مواعين تستوعب هذا الاختلاف و أحترامه، و الصراع في الديمقراطية رغم ثقل الكلمة لكنه هو الذي ينتج الثقافة الديمقراطية و يخلق الوعي المتجدد في المجتمع. أن خطوة قوى الحرية و التغيير خطوة يجب تأييدها دون تحفظ.
في المؤتمر الصحفي الذي عقدته قوى الحرية و التغيير بعد جلسة المفاوضات مع المكون العسكري، ضيع طه عثمان و ياسر عرمان وقتا كبيرا في حديث تبريري حول اللقاء و قضايا متعلقة بمسيرة العملية السياسية، و عدم اصطحابهم للجان المقاومة و غيرها. هذا التبرير غير موفق. لآن التفاوض حق طبيعي أن تقدم عليه قوى الحرية و التغيير، و مادام هي مقتنعة بإنها تقود عملية التحول الديمقراطي في البلاد، هي التي يجب أن تبادر، و هي التي تحدث أختراقا للأزمة، و لا تأخذ إذن من أحد، و هي التي تقدر الموقف و كيفية التعامل معه، و لكن يجب عليها أن تفتح حوارات على منابر عديدة تبين فيها وجهة نظرها، لكي تنقل الناس من حالة الجمود السياسي إلي انفتاح جديد، يستطيع فيه الناس التفكير بعقلانية، و هي تعلم أنها سوف تواجه حملة شرسة، و لكن عبر الحوار مع الأخرين المؤيدين لعملية الديمقراطية تستطيع أن تحقق الأهداف، و سوف تنتصر. و تعلم لن ترضي عنها القوى التي تريد أن تتسيد الموقف لوحدها. ختاما لا نتردد في الوقوف مع كل الذين يناضلون من أجل الديمقراطية و يستطيعون إحداث تحول جديد في المشهد السياسي لمصلحة الديمقراطية. و نسأل الله حسن البصيرة و التوفيق.