الناظر في التدافع الوطني في السودان منذ ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، سيجد أنه قد جدت عليه قوتان اجتماعيتان وسياسيتان لم يسبق لهما هذا التأثير القوي فيه. والقوتان هما لجان المقاومة في الشارع السوداني والدعم السريع الذي يقوده الفريق أول محمد حمدان دقلو. وجاءا للسياسة من خارج النادي السياسي التقليدي بيمينه ووسطه ويساره. بل ربما تولدت الجماعتان بسبب الإرهاق الذي ضرب أطراف هذا النادي خلال عقود الاستقلال منذ 1956. فجرب كل عضو في النادي مشروعه في الحكم بصورة أو أخرى في دورة من الديمقراطية، فالانقلاب وباء بالخسران. وبلغ هذا الإنهاك حداً قال به ألكس دي وال، المحلل المعروف للسياسة السودانية، بخلو الساحة من أي فكرة جديدة ملهمة قبل ثورة ديسمبر. فقد جرب السودان كل الأفكار الكبيرة القديمة يميناً ويساراً وهامشاً فتهاوت. وسدت خرائبها الطريق إلى سودان آخر.
ويكفي في التدليل على ذلك أن الرئيس نميري امتحن كل هذه المشاريع خلال سنوات حكمه (1969-1985) كل على حدة، وفي توقيته الذي ناسبه. بدأها يسارية ذات زبد (1969-1971)، ثم قومية عربية (1971)، ثم وسطية تكنوقراطية (1972-1977) ثم إسلامية (1977-1983) حتى غايتها وهي الخلافة (1983-1985). ولم ينجح أحد لتطوي ثورة 1985 صفحة حكمه.
ومع ذلك فهذه القوى ليست حدثاً في معنى أنها لم يسبق لها الوجود بصورة أو أخرى. فلجان المقاومة بنت الشارع السوداني منذ بدء انطلاقه في تظاهرات ثورة 1924 ضد الاستعمار الإنجليزي. ولغرابة واقعة التظاهر المنقول عن ثورة 1919 المصرية يومها، سمى السودانيون من خرج فيها بـ”فلان المتظاهر”. ثم صارت التظاهرة عادة دارجة في مقاومي النظم الديكتاتورية بالذات. ونجحت في تغيير حكوماتها فينا في 1964 و1985 و2018. أما الدعم السريع فلربما هو أقدم فينا من المقاومة بالتظاهر. فليس من حكم مركزي في تاريخ السودان مترامي الأطراف ذاك لم يستعن بقوة قبائلية ريفية لحرب المعارضين له في نواحيهم في ما يعرف بـ “التمرد المضاد بأقل تكلفة”.
ولكن الذي استجد أن المقاومة والقوة القبائلية الريفية ثبّتا وجودهما على المسرح السياسي هذه المرة كما لم يفعلا من قبل. فانفصلت المقاومة عن أحزاب تجمع الحرية والتغيير الذي قاد ثورتها لرأي الشباب السلبي في تلك الأحزاب خلال فترة حكم عمر البشير. وهو ما أكدته لهم تجربتها في قيادة الفترة الانتقالية حتى أنهاها انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2012. ولما زالت الحكومة بقيت المقاومة التي جاءت بها في الشارع. وهذا يحدث للمرة الأولى. ففي 1964 و1985 تفرقت المقاومة بزوال حكومتها الانتقالية. وحدث شيء قريب من هذا مع الدعم السريع. فكانت الجيوش الخاصة قبله تزول بزوال مهمتها، أو بزوال الدولة التي وظفتها لحماية ظهرها. فكان الفريق عبود (1958-1964) مثلاً قد استخدم فرقاً من شعب المورلي في الجنوب لمحاربة “تمرد” القوميين الجنوبيين في 1963. وزال حكم عبود، ولم نعد نسمع عن المورلي شيئاً. ولكن بقي الدعم السريع بعد زوال دولة البشير التي عبأته لكسر مقاومة حركات دارفور المسلحة في العقد الثاني من القرن. ولم تنجح في مهمتها فحسب، بل انقلب السحر على الساحر. فكان الدعم السريع من بين القوى التي انهت النظام الذي صنعها بانقلاب 11 أبريل (نيسان) 2019.
تثير المقاومة والدعم السريع جدلاً يطغى فيه الصوت المتحزب للواحد منهما أو للمتحزب عليها.
فالمقاومة في نظر المتحزب لها هي نصف الحاضر وكل المستقبل وللمتحزب ضدها هي “صبية” استمرأوا الشغب، واستحقوا الضرب على القفا. ومن الجهة الأخرى، فالدعم السريع في نظر المتحزب له رعيل ريفي سوداني جاء وقت تمثيله في مركز الدولة الذي احتكرته الصفوة النيلية. وأما المتحزب عليه فيراه طارئاً مضرجاً بالدم السوداني في فيافي دارفور قبيل الثورة إلى فضه لاعتصام الثوار حول القيادة في يونيو (حزيران) 2019. ويستنكر عليه أنه “يشتري” طريقه للسلطان بالرشا والأعطيات.
ومهما يكن من أمر صح أن ينشغل البال السياسي بصورة استراتيجية بمآلات هاتين القوتين طالما وجدتا لتبقيا معنا لوقت غير معلوم.
لا خلاف أن الدعم السريع كيان يستحيل أن تجد له تعريفاً في دولة حديثة. والاعتراض عليه من هذه الجهة مما لخصه شعار المقاومة، “العسكر للثكنات والجنجويد (اسم سبق لها أو لمثلها في حرب دارفور) ينحل”. ولكن أهل الظن الحسن بها تصالحوا مع وجودها كممثل لقوى ناهضة في الريف لم تجد تمثيلاً في الدولة السودانية. غير أنهم طلبوا منها توفيق أوضاعها لعهد ما بعد البشير بمطالب بدت كمن يدعوها أن تكون شيئاً آخر غير ما هي، أي جيش خاص انعقدت قيادته لأسرة آل دقلو ومؤسستهم المالية. فطلب منها أحدهم أن تتحول إلى قوة عسكرية ذات طبيعة ومهام وطنية خاصة كان عليها حميدتي بعسكريته، أو ابتعد عنها وخاض في السياسة ملكياً. وطلب حسن الظن بها في السياق أن تتحول بإعلامها من الدعاية لذاتها إلى الإعلام عنها كوحدة عسكرية وطنية المهام. علاوة على طمأنة الصفوة القابضة على أنهم لم يأتوا لاستبدالهم، بل لعمل مشترك لسودان جديد بقواعد جديدة تحقق القسط للجميع. وهذا قريب من طلبها الانتحار للصالح العام.
ليس للجان المقاومة مشكلة هوية كما للدعم السريع. بل هي عند كثيرين المؤشر للمستقبل في بيئة ران الإرهاق على قواها الرئيسة في المجتمع المدني والعسكري معاً. ولكن مشكلتها أنها ما تزال بعد نحو ثلاث سنوات من الثورة طاقة خامة شديدة الأسر بفدائيتها ونبل انشغالها بوطنها. غير أنها لم تتكيف بعد في تشكيل قومي بأي صورة تتفق لها بإرادتها ووفق جدولتها في وقتها الخاص. وهذا ما أراده لها السيد الصادق المهدي في أحد مصفوفاته الناصحة لتجمع الحرية والتغيير. ولم يأخذ التجمع بقوله.
وبالنتيجة ارتبك من تعامل مع هذه اللجان وهي في هذه الحالة الجنينية لو صح التعبير. فبلغت من تباعدها من أحزاب الحرية والتغيير لسوء ظنها بها أن قال أخيراً محمد الفكي، عضو مجلس السيادة المحلول والقائد في الحركة الاتحادية، إنهم غير مفوضين منها. وهو وضع مربك لمثله من لا تزال شرعيته في تمثيله للشارع، أي لجان المقاومة، في نظر المجتمع والعالم. أما فولكر بيرتس، رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) فقال، بعد تمييز مساهمة لجان المقاومة السياسة، إن المرء ليحتاج ليجتمع مع عدد منها لأن الواحدة منها لا تعترف بغيرها ممن تكون سبق والتقيت بها. بل وأخذ عليها أنها على الرغم من غزارة حضورها في أحياء المدن وغيرها، إلا أنها تسجل غياباً كاملا في مواقع الإنتاج التي منبرها النقابة. والنقابة لغير الصفوة المهنية من الأطباء مثلاً هي الفريضة الغائبة في حراك ثورة 2018. وليس ينجح إضراب عام، أو عصيان مدني، مما تدعو له لجان المقاومة بين الفينة والأخرى من دونها.
أرادت هذه الكلمة ألا يكون خروج لجان المقاومة والدعم السريع على النادي السياسي التقليدي مدعاة ليقتصر تحليلهما على الحفاوة بهما أو تجنبهما كل بما اتفق له. ففي خروجهما نفسه كما رأينا مغاز لتدبر الحالة السودانية وإحسان تشخيصها.
اندبندت عربية: الأحد 26 يونيو 2022