ميرغني الزين محمد علي محمد زين إحمير ولد في نهاية الخمسينات. بدأ تعليمه في مدرسة الخرطوم غرب الأولية التي تقبع بجوار غرب سينما الوطنية غرب وكذلك أستاد الخرطوم، ثم الخرطوم الأهلية الوسطى والثانوية العليا بالمقرن.
دخل جامعة القاهرة الفرع في عام ١٩٧٦ فقرأ في كلية القانون لعام كامل فيها. ولكن شغفه بالموسيقى كان أعمق. ولما كان المعهد العالي للموسيقى والمسرح تابعا إلى وزارة الثقافة ثم أضيف فجأةً إلى للتعليم العالي جمد القبول آنئذ ولم يتم اختيار دفعة جديدة. ولكونه وجد معارضة من الأسرة في رغبته قدم للمعهد في خفاء، وتم قبوله في دفعة ١٩٧٧، غير أنه أقنع أسرته لاحقا. ورأى أن يجمع بين الدراسة، والعمل، فالتحق بوزارة الخارجية في وظيفة كاتب مافي دراسة.
الخارجية حينذاك كان مزيجا من التنوع الإثني، والجندري، والثقافي. فيها السفير سيد أحمد الحردلو مسؤولا عن الإدارة الثقافية، ولاحقا استلم بعده د. نور الدين ساتي، وعاصر دبلوماسية جديدة في الوزارة يراها دائما بنظارتها، وهدوئها، ويظن الآن بنسبة خمسة وتسعين بالمئة أنها أسماء عبدالله التي كانت وقتها في وظيفة مستشار وتقلدت منصب وزير الخارجية بعد ثورة ديسمبر، ويتذكر سلوى جبريل زوجة وزير الثقافة والإعلام بونا ملوال، والقبطي ماريو اطو انطون، وعلي قاقرين الذي كان سكرتيرا.
نظراً لالتحاقه الجامعي المثنى، طلب ميرغني من الخارجية أن يساعدوه بوظيفة في المساء فعمل سكرتيرا في مكتب فرانسيس دينق الذي كان وقتها وزير دولة بالخارجية من الساعة السادسة حتى التاسعة فكان يتلقى المكالمات ومتابعاً لشؤون الحقيبة. فرانسيس قال له قبلها إنه لو أكمل القانون سيتم نقله من السلم الإداري إلى الدبلوماسي. ولكنه قال له إنه يقرأ القانون والتحق بالمعهد لدراسة الموسيقي حتى يتفرغ لهوايته في عزف الكمان.
في الأولية احرز المركز الأول فذهب والده إلى مخازن الخرطوم العمومية حينا فاشترى له كمنجة مليئة بالحلوى. وبدا ينظر إلى الآلة التي هي في شكل كمنجة فأعجب بها، لكنه أكل الحلوى فتكسرت الكمنجة.
في البيت الكبير للأسرة كان خاله يجلب الأسطوانات بعضها لرواد الحقيبة، وأم كلثوم، وفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، وهكذا بدأ الشغف بالموسيقى يتصاعد.
خال آخر له كان يعمل مع أحد الطليان كصبي ترزي وعنده ماكينة خياطة فيخلق من صوت تربية الماكينة اصوتا ايقاعيا فيغني. أحد معارفه كان يطلب منه أن يغني حقيبة على إيقاع التربيزة وسرعان ما تصاعد اهتمامه بالغناء اكثر.
اما في المدرسة فكان يغني في الفصل أيضا مع زميله خالد عثمان اثناء غياب المعلم. وفي إحدى الرحلات المدرسية إلى العيلفون طلب منه الناظر أن يؤدي أغنية حقيبة، وحالاً ظفر بجائزة.
وفي المقرن الثانوية اختار الانضمام لجمعية الموسيقى ووجد أحد الصولات يدرب الطلبة على الكمنجة، والعود، فاخذ تجربة لا باس بها في اكتشاف ملكاته.
ولاحقا لاحظ أن هناك رجلا يغشى بيوت كبار موظفي السكة حديد المخصصة كاستراحة. كل شهرين يأتي بعوده وتعرف ميرغني وأبناء الحي الذين كونوا فرقة شعبية للترويح. وفي منزل يفتح على مبنى بنك السوداني الحالي يجلسون بحضور عازف العود عابدين فيغنون في الأمسيات. إذ هو يعزف على الكمنجة التي اشتراها، وصديقه جعفر عبد اللطيف على الاكوردين واحدهم يوقع على جردل بلاستيك. تلك كانت البدايات التي تصحبه حتى وهو على مشارف إكمال الثانوية العليا. ذات مرة سمع بأن الموسيقار إسماعيل عبد المعين فتح فصلا لتدريس النوتة الموسيقية لفرقة البساتين في نادي الأسرة الكائن في خرطوم تلاتة، وكانت قيمة الاشتراك خمسة جنيهات. قضى اربعة أشهر في معرفة أصول الموسيقى والتمرين على الكمان بحضور عبد المعين الذي كان ياتي بين الفينة والأخرى ليشرف على متابعة تنفيذ المقطوعات الموسيقية للدارسين.
ومرت الايام فدخل الفتى إلى المعهد فاختار دراسة الكمان، وكان أستاذه اوزو مايسترلي المعلم الأوروبي الوحيد في المعهد، بجانب عمله على تدريب فرقة الإذاعة. ثلاث سنوات قضاها ميرغني مع مايسترلي.
في المعهد كون فرقة ثلاثية زميليه الفاتح حسين، وأحمد التيجاني، فكانت النواة لتكوين فرقة السمندل التي كانت فتحا موسيقيا وساهمت بحفلات في الجامعات عززت الثقافة الموسيقية وعمقت من أهمية الاستماع للموسيقى البحتة. بل إن تكوين الفرقة مهد المجال فيما بعد لطلبة جدد ليتقفوا أثرها في تعميق الغناء الجماعي، ولكن قبل أن يتخرج رجع مايسترلي إلى إيطالي لظروف صحية ثم واصل مع أستاذه الكوري ليسو بون حتى تخرج بمرتبة الشرف الأولى مع زميليه محمد سيف الدين على، وعلي السقيد.
لكل هذا التفوق اختير في وظيفة مساعد تدريس يحاضر الطلاب الجدد عن النظريات الموسيقية. وبعد ثلاث سنوات ابتعث إلى الاتحاد السوفيتي مع زملائه أبو زيد علي، وعيسى محمد أحمد، وليلى بسطاوي، وتلقى هناك دراسات متقدمة في الكمان، وعلم الهارموني، وقيادة الأوركسترا على يد أستاذه ميزيم نزكوف العازف الأول في فرقة لينين جراد السيمفونية، والذي جلب له فرقة روسية متكاملة في حفل التخرج في أحد قصور الثقافة الضخمة حضرها جمهور غفير.
عند عودته إلى السودان عين محاضرا في عام ١٩٨٩ ولكن الانقلاب العسكري هدد استقرار المعهد، ومع تفاقم مشاكل المدير الجديد مع طلبته أغلق بالضبة والمفتاح. في تلك الفترة طلب منه زملاؤه الموسيقيون بالإذاعة التعاون مع فرقتها حتى ساهم معها في تسجيل الأعمال الجديدة بحضور برعي والعاقب. ويرى ميرغني أن تلك الفترة من اخصب نشاطاته الموسيقية.
في السنة الثالثة في المعهد تطورت تمارينه مع زملائه فتعرف على الطالب سعد الدين الطيب الذي أتى بعده، وصار صديقه. وفي فترة الاستراحة يشتركان لعزف عمل لفيروز وأم كلثوم وبرعي محمد دفع الله وأبو داوؤد وعثمان حسين.
قبلها كان سعد يعزف الاكورديون مع مصطفى في الحصاحيصا قبل أن يجاز صوته، وكذا عزف ميرغني مع مصطفى حفلة في الحصاحيصا، وتنفيذ أعمال الكورال في المعهد سعد لفت نظر الموسيقيين بعد تسجيله للشجن الأليم حينما قدمها مع فرقة مصطفى. فبحث عازف الكمان الحبر سليم عن صديق ميرغني بهدف تكوين فرقة للفنان محمد الأمين فوجد سعد بالمعهد وصار أساسيا بالفرقة ثم اقترح سعد على صديقه الانضمام لفرقة محمد الامين. رغم تهيب ميرغني خوض التجربة إلا أنه تسلل يوما بخجل إلى بروفة لمحمد الأمين باتحاد الفنانين فسرعان ما أعجب بأدائه ثم صار من أوائل الخريجين الذين شكلوا فرقة الباشكاتب، ثم أتى ميرغني بالعازفين فايز مليجي، والفاتح حسين. وهكذا لازم محمد الأمين في تسجيل كل أعماله في الداخل والخارج. وحينما يغادر محمد الأمين للخارج ينضم الى فرقة ووردي والكابلي وعركي والخالدي وقد صحبهم أيضا في نشاطاتهم في السودان والبلدان الأخرى.
شارك ميرغني في إنتاج”شوق الهوى” للموصلي بالقاهرة وكان نجاح التجربة الأولى بنظام التراكات عبر البوم “الحجروك عليا” الذي أنتج في استديو الموسيقار المصري الكبير عمار الشريعي مما شجع على دخول مدير حصاد أحمد يوسف في المجال. وبعدها شارك ميرغني في تسجيل كل أعمال حصاد التي تجاوزت الثلاثة وثلاثين من ألبومات كبار الفنانين. وكان أيضا من ضمن العازفين الذين شاركوا في حفل وردي الشهير في استاد اديس ابابا، بجانب مصاحبة عبدالقادر سالم وعبد العزيز المبارك ساهم في جولتهم الاوروبية الشهيرة.
ميرغني الزين برغم تفرغه لتنفيذ أعمال عدد كبير من الفنانين، سوى أن موهبته كموسيقى بدأت منذ مساهمته في تكوينه الفرقة الثلاثية بعد تخرجه من المعهد مباشرة، حيث ساهم في تقديم أعمال تراثية، وعالمية، منها “حرمان” لحسن عطية، وأغنية روسية باسم كاتيوشا، وأعمال لعبد اللطيف خضر ود الحاوي منها “سيد اللبن جا”. وضمن فرقة السمندل عالج ميرغني موسيقيا أغنية”فتنتن بيه” لإبراهيم الكاشف، والمقدمة الموسيقية لأغنية “غدا ألقاك” للشاعر السوداني الهادي آدم التي غنتها أم كلثوم بجانب أعمال كلاسيكية أوروبية.
فضلاً عن مشاركته مع زملائه في جدل الرؤية الموسيقية في تنفيذ أعمال شركة حصاد، وزع ميرغني الزين لأحمد الجابري “سامحني” لبرعي و”ملك الطيور” لعبد الرحمن الريح، ولزيدان “أخونك” و”انت ليه ماخد في خاطرك”، ولإبراهيم عوض “فارقيهو دربي” و”يا خاين” و”مين قساك” ولثنائي العاصمة “حي كلو جميل” ولعثمان مصطفى “ما بعاتبك ما بلومك” ولعبد العزيز المبارك “ما كنت عارف” و”يا ماري ببيتنا” ولعبد القادر سالم “ليمون بارا”. ولحن ووزع لمحمود عبد العزيز “لما ردتك” للشاعر مدني النخلي، وفي روسيا أثناء دراسته عالج موسيقيا “شارع الصبر” لصلاح المصطفى.
هجرة ميرغني للولايات المتحدة التي قاربت الثلاثة عقود مهدت له تكوين فرقة اوتار النيل بجانب الموسيقيين ماهر تاج السر وفايز مليجي ومجدي العاقب وقد شاركت الفرقة في تقديم أعمالها للسودانيين، وأسس في منطقة واشنطن فرقة موسيقية لأطفال الجالية السودانية لربطهم بجذورهم، وفي حفل تأبين وردي شاركت الفرقة بجانب الفنانين الاثيوبيين تلاهون قسيسي، ومحمود أحمد وسط حضور جمع من السودانيين، والصوماليين، والاريتريين. وساهم ميرغني في مهرجان الموسيقى السودانية الضخم لنشر الموسيقى، وشارك في عام ١٩٩٩ في تنفيذ أعمال الفنان محمد وردي التي تبنى تمويلها د. متوكل محمود بمشاركة موسيقيين امريكيين اعجبوا بطريقة أسلوب السودانيين في عزف الكمان.
منذ نهاية السبعينات تعامل مع فنانين كثر، ويتذكر أن ظرفا مرضيا جعل محمد الأمين يعتذر عن حفل في بري المحس فما كان من العميد أحمد المصطفى الذي يأتي يوميا للإشراف على تنفيذ الارتباطات نادي الفنانين إلا أن يغطيها فشارك ميرغني في الحفل فأحس مع صديقه سعد بسعادة كبيرة، ولا يزال ميرغني يفتخر بالعزف مع العميد. كذلك عمل لفترة مع الزمن مع الفنان عثمان حسين بسبب سفر محمد الأمين ويقول عنه “..يا سلام على عثمان حسين كان مهذبا، وراقيا، وانيقا، ويعاملنا بمنتهى الاحترام .. كنت أعزف معه وعلى يميني عبدالله عربي وعلى شمالي عبد الفتاح الله جابو”
وسجل مع محجوب عثمان وصلاح بن البادية وإبراهيم عوض وتوطدت علاقته به أيام تسجيلات حصاد، وشارك مع عثمان مصطفى في تسجيلات المعهد والإذاعة، وعمل مع حمد الريح داخل السودان وامريكا ويتذكر أن الجمهور طلب منه الساقية ونفذوها حتى قال الفنان إنهم عزفوها أفضل من فرقته. وعمل ايضا مع الفنانين محمد ميرغني، وخليل إسماعيل، وساهم مع الخالدي منذ بداياته في نادي بوهين وله معزة كبيرة لأبي عركي الذي عمل معه داخل البلاد خصوصا في حفلات الجامعة في السودان وخارج السودان في مصر وامريكا إذ يقول ميرغني انه يرسل لهم النوتات قبل حضوره حرصا على الاحاطة باعماله الجديدة، ومقاومته للنظام ولم تلن له قناة ونفذ مع الفنان علي السقيد اثناء وجوده في الولايات بجانب تسجيل البوم المشاوير لقناة الخرطوم.
في امريكا توطدت علاقته الكابلي وينظر إليه بأنه “إنسان عالم بالتراث.. كان يشرحه لنا بكثير من المعرفة..سافرت معه بعد استقلال اريتريا إلى اسمرا برفقة الفنانة حنان النيل.. حفله في امريكا هو الأكبر من حيث حضور الجمهور..كان يدعونا لمنزله مع زملاء فرقة أوتار النيل.. وضمن مشروعي للتوثيق الموسيقي دونت “فتاة اليوم” ثم سلمتها له وقلت له فعلتها حفظاً للاجيال وفرح بها ولما تدهورت حالته كنا بجانبه..فقدنا فنانا متميزاً، وإنسانا محترما”.
تعاون ميرغني مع معظم الفنانين السودانيين المقيمين في أميركا منهم عاطف أنيس، ومحمد أدروب، وأسامة الشيخ وآمال النور .
درس ميرغني الموسيقى الاليكترونية، وتقصى أبعادها، وتأثيرها في المستقبل في أحد الكليات بولاية ميرلاند، ووجدها فتحا موسيقيا كبيرا كما قال. وأنجز خمسين في المئة من دراسة ماجستير في التربية الموسيقية بغرض تأسيس منهج سوداني لتعليم الكمان لكن لم يوفق في إكماله لظروف العمل، والأسرة.
كل المحبة والتقدير للصديق ميرغني الزين لمساهماته القيمة عبر أكثر من أربعة عقود لتحديث الموسيقى السودانية حيث ظل حريصا على تأسيس فرقة موسيقية تستلهم من الدراسات العلمية التي تلقاها في روسيا، والولايات المتحدة، وقد ساهم بقدر وافر بادبه الجم، وأخلاقه الرفيعة في كسب ود زملائه الموسيقيين، وعدد هائل من الفنانين الذين تعامل معهم، ونأمل أن تهتم به مؤسساتنا للاستفادة من تجاربه الكبير لتطوير العمل الغنائي، والموسيقي.