الاجابة علي سؤال كيف يمكن اتخاذ قرارات عامة نيابة عن الناس و كيف لها أن تكتسب مشروعية ( سياسية و اجتماعية) سؤال سابق لقيام الدولة القومية الحديثة و قديم قد المجتمعات البشرية. المشروعية لها أهمية في أنها تعطي القرارات العامة صفة مؤسسية و تمنحها مقبولية لتصبح ملزمة للجميع و معبرة عن غالبية الناس في نفس الوقت. هنالك مجلدات و بحوث اكاديمية و دراسات علمية كتبت في كيفية اتخاذ قرارات عامة من منظور فني و فلسفي و ليس هذا المقام مقام للتبحر في تفاصيلها. جوهر المعضلة يتمحور حول كيفية بلورة و تأطير مصالح متعددة و متضاربة و متنافسة في مجتمع تعددي plural society من حيث المواقع الإجتماعيه التي تحددها عدة عوامل من بينها النوع و الطبقة و الاثنية و الجغرافيا و الخيارات الفردية. كتبنا في مقال سابق في نياير الماضي “هنالك طريقتان مجربتان للإجابة علي مشروعية التمثيل: الإنتخاب المباشر او الغير مباشر، او التفويض”.
الشاهد أن الثورة السودانية الآن محل تنازع حول من يمثلها و من يحق له أن يتكلم باسمها، بل في بعض الجوانب نكاد نكون علي مشارف ادعاء البعض بملكية الثورة، و هذا لعمري هو المدخل الي الفاشية ومن ثم التطرف و الاقصاء، وكليهما محض جينات الايقان بامتلاك الحقيقة و بداية الارهاب الفكري. هنالك اسباب سيسيولوجية ذات بعد تاريخي لهذه الظاهرة و هنالك اسباب موضوعية تتعلق بطبيعة هذا الحراك و تطوره التاريخي و منعطفاته. الجانب التاريخي يتمثل في حقيقة أننا كمجتمعات سودانية نمر الأن بمرحلة مخاض اجتماعي عسير تتمثل في عملية انتقال مؤسساتي. تاريخيا المؤسسات التقليدية من قبائل و ادرات اهلية و طرق صوفية كانت حاضرة في صناعة و مباركة القرارات العامة التي تتخذ بواسطة فاعلين سياسيين يعملون من داخل مؤسسات حداثية ( أو حديثة) مثل منظمات المجتمع المدني ( احزاب و نقابات و اتحادات عمال) او من داخل منظومة جهاز الدولة. هذه القرارات العامة حتي و ان كانت قد اتخذت بواسطة حكومات غير منتخبة الا أنها كانت تجد المشروعية الاجتماعية و من ثم المقبولية بتوظيف و استغلال هذه البنيات التقليدية. و في سياق آخر نشرت سابقا في ورقة علمية مفادها أن السياسات العامة التي طبقتها الانقاذ كانت في جلها وسائل للرشاوي الاجتماعية و ليس لها علاقة بتعظيم المصلحة العامة التي هي جوهر فكرة السياسة العامة من منظور ال rational approach او المدخل العقلاني. و حتي عمليات الاستغلال و الابتزاز و الرشاوي الاجتماعية التي مارستها الانظمة الشمولية وجدت غطاء الي حد كبير من هذه المؤسسات التقليدية لمباركتها و اعطائها مشروعية اجتماعية و من ثم مقبولية.
في حقيقة الأمر أن المؤسسات التقليدية في السودان تتعرض الآن الي مساءلة عامة و هي محل شك في سلطتها و في قدرتها علي التاثير بل و حتي في مشروعيتها، هذا الحديث يكاد ينطبق علي القبائل و ادارراتها الاهلية حتي في المناطق التي كانت فيها للقبلية سطوة و تاثير، و ينطبق علي الطرق الصوفية و الطوائف الدينية كما ينطبق علي سلطة الاسرة و البنية الاجتماعية بشكل عام التي هي ايضا تمر بمخاض اصله اعادة تعريف مفهوم القيمة الاجتماعية نتيجة لتحولات اجتماعية و سياسية و اقتصادية كبيرة. و في ذات الوقت هنالك مؤسسات حداثية تتخلق في المجتمع المدني، بدأت بفتح الفضاء العام و انخراط اعداد كبيرة من السودانيين في العمل العام و في رغبتهم في المشاركة في صناعة قرارات عامة تخصهم، و هذا ما يفسر انتشار العديد من المبادرات و المساهمات من بينها لجان المقاومة و العديد من التنظيمات الاجتماعية و السياسية التي تتخلق كل يوم. تقليديا هذا الفضاء كان محدود و تتخذ فيه قرارات عامة تجد مباركة من بنيات تقليدية تمنحها مشروعية اجتماعية و مقبولية. الآن تضاعفت اعداد الفاعلين و تراجعت سلطة المؤسسات التقليدية و لم تقم منظومات حديثة تعبر عن هؤلاء الفاعلين لتمنحهم الية لاتخاذ هذه القرارات العامة و مشروعية تمثيل تعالج معضلة اتخاذ قرارات عامة تؤطر وتبلور مصالح كل اصحاب المصلحة خصوصا الفاعلين منهم. هذا الانتقال المتمثل في موت القديم (المؤسسات التقليدية و تراجع تأثيرها) و تخلق مؤسسات جديدة ( التي مازالت تبحث عن مشروعية مؤسسية) هو المخاض الذي يعقّد الاجابة علي السؤال البسيط: من له حق تمثيل الثورة السودانية و الحديث باسمها؟ اي اجابة تمضي في ادعاء امتلاك الثورة و حصر الاحقية الثورة في فاعلين بعينهم هو بداية الطريق الي الفاشية التي ثار الناس ضدها في الاساس.
و بالمقابل هنالك اسباب موضوعية تتعلق بطبيعة هذا الحراك و كيفية ابداعه لادوات التنظيم و التعبير الثوري التي تدفع البعض الي الاعتقاد أن مسيرة التغيير في السودان و كأنها بدأت في 2018.
و من بين هذه الاسباب فشل تجارب الانتقال السابقة في 1964 و في 1985 و في 2019 و كيفية ادارة الطبقة السياسية لمرحلة التأسيس كصراع سلطوي، و للأسف يبدو أن هذا هو العقل المسيطر في هذه اللحطة علي كل الفاعلين السياسيين بما في ذلك من يعتقدون أنهم دعاة تغيير جذري. هذه الظاهرة هي نتاج تطور البنية الاجتماعية و السياسية و موضوعيا ما يحدث الآن من صراع حول السلطة و ان تسربل و تخفي حول الاحقية الثورية و مشروعية التمثيل هو انعكاس للمقومات الموضوعية للبنية الاجتماعية و الثقافية في السودان و مدي عجزها عن انتاج خطاب استشرافي تأسيسي يوظف السلطة للتأسيس و ليس للصراع حول السلطة بشكله الازلي المتوارث.
خلاصة القول أن العقول البسيطة، التي تريد أن تتعاطي مع سؤال مشروعية التمثيل و الأحقية الثورية في هذه المرحلة الثورية بتبسيط ساذج يقسم الناس في خندق الثورة الي دعاة تسوية ( و هؤلاء و خونة) و دعاة تغيير جذري هكذا بلا تعريف (و هؤلاء هم اصل الطهر الثوري) ترتكب خطأ كبير لأن التصنيف لا يجيب علي سؤال المشروعية، ومثل هذا التبسيط هو تعبيد الطريق الي الفاشية الجديدة تحت مسمي الثورة و التغيير السياسي. لا حل لسؤال مشروعية التمثيل و الأحقية الثورية في هذا المنعطف الثوري سوي القبول و الحوار و تطوير مواقف حد أعلي من تصورات و آليات لبناء الدولة المدنية الديمقراطية. أما التنافس حول الطهر الثوري بادعاء الجذرية و الصوابية السياسية و التفوق الاخلاقي فهو محض سباق الي الحضيض Race to the bottom، اذ ما زال علينا نحن في معسكر الثورة العمل علي كسب قطاعات عريضة من السودانيين الي معسكر الثورة، لا التنافس حول من يمتلكها و من له حق التحدث باسمها حتي لا نقع في آتون فاشية جديدة.
4 يوليو 2022