امتلأت صفحات الأسافير منذ مساء أمس بمحاولات تحليل وتفسير وتوضيح حديث الجنرال البرهان، بحيث تخيلت إنه لا حاجة لمزيد من الكتابة، ثم واجهتني أسئلة كثيرة، وتخيلت إنها قد تدور في أذهان آخرين، فحاولت إيجاد إجابات لها من محتوى عبارات وإشارات الخطاب
السؤال الأول: هل يعتبر الخطاب تراجعا عن الانقلاب أم سيراً أكثر في طريق الإنقلاب.. ؟
الحقيقة لم أجد أدلة قاطعة تماما لاختيار إحدى الإجابتين، والظن عندي إن الخطاب واحد من علامات التخبط والارتجال الذي صاحب كل خطوات ما بعد الإنقلاب. أعلن الجنرال البرهان خطابه الإنقلابي في ٢٥ أكتوبر، وحدد أهدافاً معينة لما أسماه المسار التصحيحي، وخطوات سيتخذها لإكمال مسار الفترة الانتقالية. لكن تعثرت كل الخطوات، ولم يستطع أن يحقق أيا من وعوده، وصار يتخبط في قراراته، ولم يستطع تشكيل حكومة لمدة ثمانية أشهر. فشل الإنقلاب في تحقيق أيا من أهدافه، لكن لا يريد الجنرال الاعتراف علانية بذلك، وظل يحاور ويناور. وبالتالي فهذه محاولة جديدة لفعل شئ ما من أجل إرباك المشهد.
السؤال الثاني:هل يمكن ربط الاتفاق بمجريات الحوار الذي بدأ بين المكون العسكري/ الانقلابي و الحرية والتغيير- المجلس المركزي.. ؟
العكس صحيح، فالمنطق يقول إن هذا الخطاب هو ناتج حقيقي لفشل عملية التفاوض لتباعد المواقف، وبالتالي هو نسج فردي من الجنرال ومن معه، ولا يعكس أي نوع من التوافق المحلي، لا مع المجلس المركزي ولا مع مجموعة التوافق الوطني
السؤال الثالث: هل هناك أي مؤشرات على أن هذا الخطاب يعكس تفاهما اقليميا أو دوليا على مضمونه واتجاهاته.. ؟
لا تتوفر معلومات مؤكدة حول هذا الأمر، ولا توجد أيضا مؤشرات قوية تؤكد توافق المجتمع الدولي مع ما طرحه البرهان، بل الحقيقة إن أي قراءة موضوعية لمواقف الدول الغربية الكبرى والمؤسسات الدولية تقول إنها لا تزال متمسكة بموقفها من ضرورة إنهاء إجراءات الانقلاب وتشكيل سلطة مدنية كاملة، وليس مجرد حكومة مدنية مجردة من الصلاحيات. لكن من المهم إن نقول إن الدول الكبرى و المنظمات الدولية قد تتباين وجهات نظرها حول الخطاب، خاصة تلك التي تشجع سياسة الخطوة خطوة. وقد تعتبر الخطاب خطوة للأمام وفرصة يجب اغتنامها لتحقيق بعض النقاط.
السؤال الرابع والأخير والأكثر أهمية: هل يعتبر هذا الخطاب استجابة لطلب إبعاد الجيش من السياسة وعودته للثكنات… ؟
لعل هذا هو السؤال الوحيد الذي يمكن تقديم إجابة قاطعة حوله، وهي لا، هذا الخطاب لا يخرج الجيش من حلبة السياسة ولا يعيده للثكنات ١-خطاب البرهان قرر فيه سحب الجيش من عملية التفاوض والحوار الحالية، لكنه لم بعيده للثكنات، بل وضعه فوق الجميع، في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو إذن لا ينتظر الحوار الذي يحدد موقع المؤسسة العسكرية من مؤسسات الدولة وصلاحياتها ودورها، بل أخرج ذلك من العملية وقرر فيه لوحده. ثم إنه حدد منفردا صلاحيات المجلس الأعلى في الأمن والدفاع، بجانب مهام أخرى يتم الاتفاق فيها مع مجلس الوزراء، وقرر، منفردا، إن لا مكان للمجلس السيادي في هياكل الفترة الانتقالية، وبدأ بإعفاء الأعضاء المدنيبن. ٢- بحسب الورقة التي تحدد الموقف التفاوضي للمكون العسكري والتي سلمها من قبل الآلية الثلاثية، فقد طالب بأن تكون اختصاصات مجلس الأمن والدفاع، وهي الصيغة التي كانت مطروحة من قبل، وتحولت الآن للمجلس الأعلى للقوات المسلحة،. في مهام الأمن والدفاع و السياسة الخارجية و الأشراف على البنك المركزي/ السياسة النقدية.. ؟ ماذا يتبقى من السياسة إذن ليمارسها مجلس الوزراء… ؟ ٣- حدد خطاب البرهان، منفردا، مهام عملية التفاوض الحالية تحت إشراف الآلية الثلاثية في تشكيل مجلس الوزراء فقط، ولأن المكون العسكري لن يكون طرفا في الحوار فإن أي قضية أخرى تناقشها القوى المدنية وتتفق عليها ، مثل الإطار الدستوري، هيكل مؤسسات الفترة الانتقالية ومدتها، اختصاصات الجهات والمؤسسات المختلفة، ستبقى غير ملزمة للمكون العسكري، بل تعرض عليه ليوافق أو يرفض أو يعدل، وهده مرحلة ثانية من التفاوض تؤكد إن المؤسسة العسكرية باقية في المجال السياسي وهي ، بحسب رؤية خطاب البرهان. من سيحكم على مخرجات الحوار، إن جرى، بالقبول أو الرفض ٤- رهان البرهان هو أن القوى المدنية غير محددة الأطراف، والتي دعتها الآلية الثلاثية، هي شتات لا يمكن أن يتفق على شئ، وبالتالي يتوقع إن لا تتفق، ثم يأتي هو ليقول للسودانيين والعالم: لقد أعطيتهم الفرصة ولم يستطيعوا تشكيل حكومة وفشلوا، وبالتالي لا لوم على في أي خطوة أخدها.. هذا ما يظن إنه سيكون القول الفصل والمخرج له من أي التزام، إلا إذا قيض الله له طفل فصيح من أطفال السودان ليقول: إنت تعمل انقلاب… وتقول لينا شكلوا لي حكومة… ما تعمل حكومتك براك….! .