ولماذا لا يكون هناك احتمال آخر، وهو أن الفريق أول البرهان حار به الدليل، فاختار الانسحاب تفاديا لعواصف أكبر مما يواجه الآن ؟
فشل البرهان في تكوين حكومة مدنية طوال ثمانية أشهر أمسك فيها بقبضته وحده كل خيوط اللعبة، بل وفشل في تنفيذ أي من وعوده التي قطع موعدا لها في خطاب الانقلاب لا يتعدى مداها الشهر، كما اكتشف -وقد حاول الدخول إلى عش الدبابير السياسية- أن الأمر ليس بالبساطة التي أوحى له بها جماعة اعتصام القصر، كما اكتشف أن شوكة لجان المقاومة أكثر قوة مما ظل يردده بعض مخادعيه بأنهم مجرد أطفال مكانهم المدارس وساحات اللعب !
الرجل لم يتحرك بسيناريو مسبق الإعداد، هذا احتمال وارد جدا، لكنه تحرك إحساسا بمخاطر حقيقية باتت تنمو ساعة بعد أخرى، خصوصا بعد أن أمسك السبع بشريان الرقبة في السلطة .. وبات ينتظر استمرار النزيف حتى يسقط الصيد السمين !
شريان الرقبة تم عضه بالاعتصامات، وهو أسلوب شديد الخطورة يعرفه البرهان بالتجربة العملية، وارتفعت معه الاحتمالات بأن تنزلق الأمور لإضراب عام وعصيان مدني بعد العيد .. يسنده شلل الحياة الاقتصادية والمتاريس العصية على الاختراقات والإنهاك الكبير الذي يحدث للقوى الأمنية.
البرهان أدرك، وفق هذا الاحتمال، المخاطر المتربصة بنظام الانقلاب، فأراد أن يرمي الكرة في ملعب القوى السياسية لا ليقول لاحقا إنها فشلت، فقد فشل هو قبلها بامتياز، ولكن ليعطيها فرصة كي تنجح للخروج من المأزق المهول الذي يخيم على الساحة.
كذلك يدرك البرهان الضغوط التي يمكن أن تأتيه من قيادات الجيش وخصوصا الذين ساندوه في انقلابه إذا قام بمحو كل دور لهم وتركهم لقرارات المدنيين، ولذلك بادر برسالة تهدئة وقرار استباقي بمجلس أعلى للجيش والدعم السريع .. ليوازن الأمور على طريقته .. حتى تتزحزح حواف الفجوات وتلتئم الأرضية بفعل الحراك السياسي القادم.
لكن الواضح أن قرارات البرهان لا تجد صداها العملي الكافي على أرض الشارع، خصوصا وأن القوى السياسية المناوئة لانقلابه تقف كلها في خانة الرفض لقراراته، والسبب الأكبر هو المجلس الأعلى للجيش والدعم السريع الذي وعد بإنشائه حال توافق القوى السياسية على حكومة مدنية.
أعتقد أن بإمكان البرهان أن يوقف العض على شريان رقبة السلطة بقرار يوضح فيه أن المجلس الأعلى للجيش والدعم السريع سيكون ذا طبيعة فنية عسكرية بحتة يتولى مسائل الدمج وما يتعلق بالشأن العسكري، وأن المجلس سيكون تحت إشراف وزير الدفاع ولن ينطوي على أي وصاية على الحكم المدني.
ربما تنفرج الأمور إذا فعل البرهان ذلك، وربما يكون هذا هو المخرج الوحيد المتبقي بعد أن تلاشت كل المخارج للنفاذ من مأزق الانقلاب.