في مساء يوم الأحد 3 يوليو 2022 وبخطاب قصير أقل من أربع دقائق، الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، قلب الطاولة وأعاد توجيه إحداثيات المعركة السياسية..
ستجاب دفعة واحدة للثلاث ”لاءات“ التي ظلت مرفوعة فوق رايات المواكب والتظاهرات منذ 25 أكتوبر 2021 والتي بلغ مهرها حتى اليوم أرواح أكثر من 110 شابة وشابا.
مختصر بيان البرهان هو خروج المكون العسكري من القصر الجمهوري، المجلس السيادي، و“العودة للثكنات“، وهو المطلب الأساسي لشعارات التظاهرات، وفق ترتيبات تبدأ بتوافق المكون المدني على حكومة تنفيذية، وفور إعلان تشكيلها يصدر قرار بحل مجلس السيادة وتنتهي بذلك الشراكة بين المكونين المدني والعسكري التي جاءت وفق الوثيقة الدستورية الموقعة في 17 أغسطس 2019.
المفاجأة الكبرى كانت إعلانا مبكرا من قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي- رفض هذه الإجراءات واعتبارها التفافا على المطالب الثورية بـ“إنهاء الانقلاب العسكري“.
ثم صدر بيان آخر من حزب الأمة القومي -أكبر أحزاب قوى الحرية والتغيير- أكد فيه الرفض وزاد عليه حيثيات إضافية (إن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة قبل إنهاء الانقلاب وإزالة مترتباته والتوافق على مرجعية دستورية وإعلان سياسي جديد يحدد مهام واختصاصات هياكل مؤسسات المرحلة الانتقالية، لن يقود إلا إلى تعقيد الأزمة السياسية المستفحلة أصلا)، حسب نص البيان الصادر من المكتب السياسي لحزب الأمة القومي يوم الأربعاء 6 يوليو 2022.
ولكن حاجب الدهشة يبلغ ذُراه باستكمال صورة ردود أفعال قوى الحرية والتغيير في تصريح على لسان الأستاذ محمد الفكي سليمان عضو مجلس السيادة السابق (سندخل في مواجهة مفتوحة مع الحكم العسكري حال تمسك البرهان بما ورد في خطابه ورفض الحل السياسي..).
الصورة الكلية لهذه المعركة السياسية مربكة لأقصى درجة، خطاب البرهان يعلن إنهاء ارتباط المؤسسة العسكرية بالسلطة والعودة لمهامها الأصيلة في الدفاع والامن، ويطلب من المكون المدني التقدم إلى الأمام لاستلام مفاتيح مجلس الوزراء والقصر الجمهوري وتولي الحكم كاملا غير منقوص.
الوضع الطبيعي أن تعلن القوى المدنية فورا، وقبل شروق شمس اليوم التالي حكومة تنفيذية كاملة من رئيس للوزراء ثم أي عدد من الحقائب الوزارية، ويصبح البرهان أمام المحك في تسليم مفاتيح السلطة وخروج المؤسسة العسكرية تماما من الملعب السياسي، وهو المطلب الأساسي الذي ظل مرفوعا على الرايات منذ أكثر من ثمانية أشهر.
وبدلا من ذلك، طالبت قوى الحرية والتغيير في بيانها الذي رفضت فيه خطاب البرهان بحزمة قرارات تسبق تسليم السلطة، منها إصلاح المنظومة الدفاعية والأمنية ودمج القوات واستعادة الشركات التي تتبع للقوات النظامية ثم تحديد ما هو المكون المدني الذي عليه تشكيل الحكومة ومطلوبات أخرى يحتاج استكمالها ربما لسنوات قادمات.
وكأن بقوى الحرية والتغيير تطلب من القوات المسلحة تأجيل خروجها من السلطة في انتظار اجراءات أخرى قد تتطلب فترة انتقالية كاملة جديدة.
هذا المشهد يثبت ما ظللت أكرره كثيرا، أن الساسة تنقصهم الحِنّكة والحِكمة، فهم ينظرون بعين متوجسة إلى الحراك الشبابي في الشارع ويبذلون أقصى ما هو متاح من شعارات ضاجة بالثورية بظن أن ذلك يرفع مؤشرات الجماهيرية.
بينما، في المقابل، الشباب الثوري في الميدان ينتظر قيادة سياسية حكيمة قادرة على ترجمة الشعارات والهتافات لتحقق الأهداف، أشبه بجمهور في المدرجات ينتظر الهدافين في الملعب لاحراز أهداف تهز الشباك، فيفاجأ باللاعبين يهتفون مع الجمهور بدلا من ركل الكرة.
الخطة التي أعلنها رئيس مجلس السيادة البرهان في خطابه لم تكن وليدة الأيام التي تلت مليونيات الثلاثين من يونيو، هي خطة طُرحت في جلسات التفاوض المباشرة برعاية السعودية وأمريكا بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير، والتي أحدثت اختراقا مهما في جمود التسوية السياسية للأزمة السودانية.
وتجد الخطوة دعما قويا من محاور اقليمية ودولية، لأنها تنهي الصراع السياسي وتستعيد المسار الانتقالي المفضي لانتخابات نيابية ورئاسية.
لكن في حال رفض قوى الحرية والتغيير لهذه الاجراءات فقد تشكل حكومة مدنية من القوى السياسية الأخرى ثم ينسحب المكون العسكري ليترك الملعب بين المكونات المدنية ان شاءت أن تتوافق أو تختلف.
ورغم رفض قوى الحرية والتغيير لخطاب البرهان إلا أن مياها كثيرة ستجد الطريق لتتدفق تحت الجسر، بقوة دفع الرغبة الكبيرة لدى الشعب السوداني في رؤية شمعة في آخر النفق، فالإبقاء على الأزمة بلا خارطة أو أمد أدى لارتدادات اقتصادية واجتماعية ضربت عميقا في استقرار الأسرة السودانية، وهي آخر خط دفاع لتماسك الدولة السودانية.
تداعيات الأزمة السياسية الطويلة بدأت تظهر في انتشار هائل للمخدرات في أوساط الشباب العاجز عن العمل بل والأمل، ولم تعد تضرب الأسر التي تعاني أصلا من نكبات داخلية بل حتى الأسر المستقرة الرصينة أصبحت في مرمى نيران هذا الوباء الكاسح، الذي يستفيد من انشغال السلطات الشرطية بمهام مواجهة المظاهرات.
وفي المسار الأكاديمي، تكاد كل الجامعات الحكومية مشلولة منذ أشهر عديدة، وبلغ السيل الزُبى في جامعة الخرطوم مفخرة السودان التي تتراكم فيها الآن أربع دفعات، وبدأت لأول مرة في تاريخها الذهبي تشهد استقالات للطلاب المحبطين والذين يهربون للبحث عن فرص للتعليم الجامعي خارج السودان.
أما انهيار القطاع الصحي فهو أمر توثقه الأرواح البريئة التي تصعد يوميا أمام أبواب المستشفيات وهي لا تجد العلاج ولا المُعالج.
الفرصة الآن متاحة أكثر من أي وقت مضى للخروج من نفق الأزمة السياسية بالسودان، لكن الأمر يتوقف على حنكة وحكمة الساسة.