ما يسمح بتعريف العقل الأدبي انه عقل يجري عملياته ويقدم نتائجه في تفسير الاشياء والنظر الى الواقع المحيط بنوع من التفكير الافقي فيجنح الى الوصف واغراق جملته بالمحسنات البلاغية متخذا مسافته الخاصة من مبنى الظاهرة او الموضوع دون الولوج في طبقاته وتحويلها آلي فائدة ذات قيمة تطورية خالصة وعامة. والعقل السياسي الادبي عقل غير تفكيكي غالبا ما يخشى التحديات الواقعية ويهرب منها بنظر الى الوراء بحثا عن الأمن والأمان الاجتماعيين والاحتفاظ بعلاقات متوازنة ومستقرة أقرب الى المحافظة على ما هو سائد وموروث ودعم ما هو قائم دون البحث في اسباب سلطته ودون صراع معها او خوض في الاشتباكات الفلسفية وإطلاق قدرات التأمل بتصحيح المفاهيم والتخلص من فائض قيمة الاخطاء المرتكبة والاشارة والتعريف بمرتكبيها. ويحتل التقليد لدى هذا العقل ومحاكاة الآخر موقعا متقدما تصنعه حالة اللا ثقة والاحساس العميق والمعمق بالدونية بأسباب تتعلق بمكون هذا العقل وتراكيبه وقوى دفعه الثقافية النفسية. ويكفي ان معظم احزابنا السياسية وبالإضافة الى مصادرها ذات التأثر من التجارب السياسية الخارجية (دولية واقليمية) فالمحلي منها وفي أحسن الاحوال نجده قد خرج من تجربة جماعة ادبية صغيرة كالاتحاديين الذين صدروا عن جماعة ابروف بإعجاب لافت بتجربة نهرو. ولا يكاد الباحث في تاريخ التكوينات السياسية منذ مؤتمر الخريجين ١٩٣٨ وما قبله وما بعده العثور على جدار يفصل بين الثقافة السياسية والمفهوم الرومانسي عن الوطنية كمفهوم عروبي يقوم على الادب كماثرة تاريخية للعرب بنحو ضيق ومغلق اغلق تفسير الهويات السودانية في إطار هوية واحدة وأجرى على ذلك احكامه القاسية واقصائه للاخرين من الشركاء الوطنيين،
وهذا تقليد ايضا ساهمت الجمعيات الادبية في بذره في البنيان التحتي باستهداف عرقي وجهوي مركزي حرض فيما بعد على الثورة ضده بإشكال متنوعة من الكيانات والتنظيمات والهيئات الجهوية المضادة دون ان تقرا الدرس لاحقا وتقع هي نفسها فريسة شراك العنصرية المضادة (كما ينبئ كتاب نواياها حاليا لحكم السودان)- هذا العقل السوداني العام اذن غير التحليلي او غير النقدي العملي يقيم موقفه بارتباط وثيق بالتهويم والتهويل للتغيير والمطالبة به باحتفاظ محدود ومقايسة لا تخرج به من مضمار التغيير السياسي الذي ينتهى باخذ القسط والنصيب من السلطة والتمتع بامتيازاتها دون تحويل قوتها لصالح الاغلبية الساحقة وتنمية أوضاعها. وفي أحايين كثيرة يلجا العقل الأدبي الى شيطنة التغيير بوصفه عملية تدميرية للمعتاد والمألوف
بأغراض حداثية شريرة ليست ذات علاقة بالأصالة (المزعومة) ذات المقاربة الدينية (بالضرورة) والاخذ بالمفهوم الرجعي منها لديهم. فالأحزاب اغلبها وفي شعاراتها تنشد التنمية والديمقراطية ولكن تسكت عنها في حياتها الداخلية وتحاربها بنحو ظل يفقدها الكادر الديمقراطي المثقف والمتعلم العالي الجودة بخروجه المستمر من عضويتها. ويبدو ان عدم العمل بمشرط النقد الصارم للتاريخ الاجتماعي والثقافي له من المشكلات العالقة التي يخشى اثارتها ان لم تكن هنالك من الاحزاب من نشا اصلا نتيجة اكاذيب التاريخ و نسج اساطيره الفادحة بعدم اتاحة الفرصة بتعميم النقد عليه ليتم العكس من ذلك بتقديسه وتدريسه وجعله مدماكا وحجرا في تعريف الوطنية المثالية وحركتها في ثنائيات قاتلة حرص المستعمر الانجليزي والمصري على وصم الواقع الكلي بها في شتى المجالات لتقوم نخب الوسط فيما بعد بتوظيفها لخلق المزيد من الانقسام الاجتماعي والبلبلة الثقافية واستطاعت ومن بعدهما حركة التطور السياسي بالسودان من اختطاف وعى المواطنين بواسطة انتاج المزيد من النخب الزائفة المضادة لمصالح الشرائح والطبقات الاجتماعية الواسعة.
ولا يخفى في ذلك التواطؤ من قبل (الجماهير) المأخوذة والمساقة جراء الاستثمار في خزين ومخزون تكوينها القبلي التعصبي والثقافة الاجتماعية المنحازة لها. فخطاب العقل السياسي الادبي اذن وجد تعاطفا وتوافقا مع الاغلبية من الدهماء والمتماهين مع الجمود او كساد الاشياء في كسل من المغامرة الفكرية وخوف صريح من المستقبل. هذا العقل وفي نوعه السياسي يكاد يعرف السياسة منذ معرفة السودان الحديث بالسياسة وتعرف السياسة عليه حتى باتت تفاعلات نتائجه بمثابة المرض والآفة السياسة في مجمل التطور السياسي السوداني حتى اشعار اخر غير معلوم الميقات.
ويمكن النظر الى ان روافد هذا العقل الأدبي تعود مباشرة الى اعتماد السياسي السوداني على الثقافة الادبية في تكوينه والنظر الى الخطابة وتعليمه الثقافي المتأثر بالمدارس الادبية والتيارات الثقافية المنشغلة بأنواع الادب ومجالاته والتواصل عن طريق اللغة (طق الحنك كما يقال) كوسيلة مؤثرة واداة لخدمة اهدافه المعلنة وغير المعلنة كالتكسب من اقتصاد الدولة والوظيفة الميري ودمج اقتصادها مع اقتصاده الفردي والحزبي غي معظم تجارب السياسيين المحترفين كما أكد الحال في سنوات ما بعد الاستقلال وحتى الان.
عليه فقد استحقت السياسة السودانية تغييرا ليس فقط في مجتمعها المنخرط بعملياتها المتعددة في اضعاف الدولة ولكن ثورة في التفكير والسلوك وصناعة القيم المنتجة جراء ذلك. فالثورة تستحق ان نجريها في العقول اولا بالتمرد على النظم والمنظومات القديمة في التفكير ونبذ العادة بالتخلص من التقليد والحفظ والحشو المعلوماتي غير المدقق او الخاضع للتحليل ومن بعد الارتباط بالواقعية في التفكير وليست الرغبوية.
دون ذلك سيكون محلنا سر وربما دونه بكثير كما هو واقع حالنا مكسور الجرة، مسحوق الاحلام والذي وصل مستوى من الفراق مع المعقول بنحو منقطع النظير. فلننجز ثورتنا جنبا الى جنب مع انفاذ تثوير العقل والغاء هياكل التفكير البائدة البالية وتجريدها من قدسية مزيفة ومفتعلة تحافظ على غرضها. نحتاج الى بناء العقول الجديدة بارتباط وثيق بفلسفة وفكر التكنولوجيا وثورة المعلومات والعمل بنتائج الذهنية العلمية دونما محاباة او تواثق مع شبكة المصالح التاريخية المتنفذة التي تعمل على الابقاء على مؤسساتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وابقائنا بالتالي تحت سلطتها المعنوية وفضائها الخبيث وخياراتها الرتيبة الكثيبة.
فالتنطلق حريات البحث العلمي وتنشا مجتمعات المعرفة والتبادل المعرفي والتداخل والتقريب بين المجالات العلمية بجيش من السودانيين وفرق محكمة التسليح بالتفكير العلمي لتحل محل السياسي (العنقالي). لنعمل سويا لإلغاء القوانين والاحكام المحرمة للابتكار والتجديد ونقد الماضي والمتسترة بتيارات الاسلام السياسي والفقه الديني العتيقة المغرضة في ابعادها الاتجارية بالدين والاسترزاق منه ولننظر بأمل تجاه لتحويل طاقته لصالح الغالبية العظمى والاكثرية من الشعوب السودانية المتنوعة.