تُعد رواية “دون كيشوت” للروائي الإسباني ميخائيل دي سارفانتس من أجمل الروايات العالمية الساخرة عن الفروسية الزائفة، والتي تجسد قصة رجل احمق في مهمة نبيلة. جرت تفاصيل قصة دون كيشوت الذي يعيش في عصر النهضة ويستخدم سلاح قديم بالي ويمط صهوة جواد هزيل لإصلاح البشرية، فكانت نتيجة صراعه مع طواحين الهواء التي توهم أنها شياطين لها أذرع تقوم بنشر الشر في العالم، حيث قام دون كيشوت بمهاجمة طواحين الهواء فغرس فيها رمحه لكنه علق بها فرفعته إلى الهواء عالياً ثم طوّحت به أرضاً فكسرت عظامه.
هذا حال منفذي إنقلاب 25 أكتوبر، الذين أطلقوا مبررات التصحيح وإنقاذ البلاد، فكانت النتيجة “جاء يكحلها عماها”، وادخلوا البلاد في مأزق وجودي ينذر بشر مستطير.
خّلف إنقلاب 25 أكتوبر مخاطر كارثية على السودان خلال الثمانية أشهر الماضية، وذلك لإبحاره عكس تيار التحول الديمقراطى وإرادة الشعب، وذلك جراء حماقة سياسية غير مأمونة العواقب، ورغم فشل الإنقلاب وتعثره، إلا أن منفذيه وأعوانهم أصـروا واستكبروا استكبارا في المضي قدماً في ترسيخ أركان إنقلابهم بوسائل عنيفة وتخريبية من منطلق “علي وعلي أعدائي، والرهيفة تنقد”، هذا التوجه والقائم على”وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى” جاء وبالاً على البلاد، وجـر الأوضاع الي مخاطر وفتن حقيقية تحدق بالوطن وقد تفكك الدولة السودانية برمتها، فقد إرتكب الانقلابيون الموبقات التالية:
أولاً: قيادة حملة شيطنة واسعة للقوى السياسية لاسيما قوى الحرية والتغيير، وتجريمها، والنيل من رموزها، وتحميلها مشاكل البلاد القديمة والجديدة، بخطاب تحريضي موجه فتح الباب أمام الفوضـى السياسية، وللأسف إنساقت قوى سياسية ولجان مقاومة في هذا المنحى التحريضي الذي يستهدف القوى المدنية المناط بها إدارة الشأن الوطني والممارسة الديمقراطية.
ثانياً: تجيش القبائل، وإنعاش الانتماءات العشائرية، وإثارة النعرات الجهوية والمناطقية، وتشجيع الصراعات القبلية، وترسيخ الاصطفاف العرقي والاثني في مواجهة المكونات الاجتماعية الأخرى، وذلك بحثاً عن حاضنة إجتماعية للإنقلاب وبديلاً للقوى السياسية.
ثالثاً: بدلاً عن تسريع عملية الدمج والتسريح للجيوش المتعددة من دعم سريع ومليشيات وحركات مسلحة في جيش قومي مهني واحد، استخدام تعدد الجيوش كمهدد للأمن القومي بالتعبئة العسكرية التي تولى كبرها القادة العسكريين لهذه الجيوش وإستخدامها للتكسب السلطوي، وإعدادها وتجهيزها لمعارك محتملة.
رابعاً: تغذية الخطاب الاقصائي الرافض للآخر السياسي، وسـد الأفق الذي أدى الي تبني شعارات راديكالية وشطط في طرح الحد الأعلى من الرؤى والمواقف السياسية، وإفشال محاولات التوافق السياسي، وتجريم أي مسعى لعملية سياسية.
خامساً: تّحمل الانقلابيون أوزار ومسئولية إنتشار خطاب الكراهية كالنار في الهشيم، وإطلاق الأحكام المسبقة والصور النمطية والقناعات الإقصائية في المنابر الجماهيرية، والتلاعب السياسي بالمواقف العنصرية كمدخل للعنف المادي “الحرب أولها كلام”.
سادساً: رعاية الفساد المالي والإداري والسياسي والاقتصادي، ونهب ثـروات البلاد دون وازع أخلاقي أو ديني أو وطني، وحماية بالمفسدين والتستر عليهم، وتفويت فرصة إعفاء الديون والخروج من العزلة الدولية والاستفادة من صناديق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الإقليمية والدولية.
سابعاً: التأثير السياسي على القضاء، مما أدى الي تقاعسه عن واجبه العدلي، بل والانحياز للإنقلاب. عطفاً على تواطؤ الأجهزة الأمنية والشرطية عن حماية المواطنين، بل وارتكابها جرائم في مواجهة المواطنين، إن ضياع العدالة والحماية نتيجة تسييس مؤسساتها تمثل القشة التي قصمت ظهر البعير.
ثامناً: الردة السياسية عن مكتسبات الثورة والانتقال لا سيما إزالة التمكين وتفكيك النظام المباد، والسماح للحزب المحلول وتوابعه بمزاولة نشاطه، وإعادة منسوبيه الي مؤسسات الدولة، وإرجاع ممتلكاتهم وأموالهم، وتعيين معظمهم في مناصب قيادية بالدولة، مما أعاد البلاد الي وضع ما قبل ثورة ديسمبر المجيدة.
تاسعاً: فتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية الخبيثة، وفتح كذلك منافذ للعمل الاستخباراتي في الساحة السودانية، وإضاعة السيادة الوطنية وإدخال البلاد في صراع المحاور الإقليمية والاستقطاب الدولي.
عاشـراً: بّـدد جهود المجتمع الدولي والإقليمي الهادفة الي مساعدة السودانيين للخروج من الأزمة التي تسبب فيها الإنقلاب بالمراوغة والتكتيكات الانقلابية، مما أدخل المجتمع الدولي والإقليمي في ربكة وتخبط أفقده الرؤية والفاعلية، وبالتالي أضاع فرصة دعم الإنتقال الديمقراطي في السودان.
هذه الموبقات العـشر للإنقلاب تمثل مهدداً حقيقياً ومخاطر كارثية على السودان، تقود حتماً إلى إنهيار الدولة السودانية، إذا لم يتم تداركها اليوم قبل الغد.
من نافلة القـول أن الإنقلاب لا مستقبـل له، وأنه زائل عاجـلاً أم آجـلاً، ولكن الحقيقة التي ينبغي الإنتباه لها قبل فوات الأوان، هي كيف يتم تقليل تكلفة إسقاط الإنقلاب وإستعادة الحكم المدني الديمقراطي، والحيلولة دون إنهيار الدولة والرجوع للوراء، وكيف يتم مواجهة الموبقات العـشر، فلا عاصم إلا بإنجاز واجبات المرحلة، وهذه مهمة لا تقبل التأجيل، وفرض عين على كل القوى السياسية والمهنية والمدنية والثورية وحتى القوات المسلحة.
المنجيات العشر التي تمثل واجبات المرحلة هي:
أولاً: وحـدة قوى الثورة والتغيير كمدخل لوحدة السودان أرضاً وشعباً، وهي مهمة لا تحتمل المزايدة والاقصاء والمكابرة، أساس المركز الموحد التواضـع على المحافظة على الوطن أولاً، وإسقاط وإنهاء الانقلاب، والتوافق على وثيقة دستورية جديدة، وإستعادة الحكم المدني الديمقراطي بتشكيل حكومة مدنية متوافق عليها بلا محاصصة، مهمتها إنجاز مهام وقضايا الاقتصاد والعدالة وإزالة التمكين والسلام والمؤتمر الدستوري والانتخابات.
ثانياً: قيادة حملة تثقيف مدني واسعة لنبـذ القبلية والجهوية والعصبية وخطاب الكراهية والعنصرية والتحشيد العرقي والاثني، وترسيخ قيم التعايش السلمي وقبول الآخر وإدارة التنوع الخلاق.
ثالثاً: عملية إزالة التمكين وتفكيك النظام المباد هي في حقيقتها تهدف إلي تنقية الحياة السياسية، وبناء دولة العدالة الاجتماعية، وتصفية دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن، وإزالة المظالم، وتحقيق دولة القانون والمؤسسات، ومحاسبة الفاسدين، وذلك عبر قانون وسياسات وإجراءات تحقق هذه الأهداف.
رابعاً: إجـراء مراجعات سياسية بعد تقييم دقيق وشفاف للتجربة الانتقالية السابقة، فهي بلا شك تجربة بشرية فيها إيجابيات يمكن البناء عليها وتجاوز سلبياتها في الانتقال القادم.
خامساً: إعتراف قادة الانقلاب بفشلهم، وإنخراطهم في عملية سياسية تفاوضية لتسليم السلطة الي المدنيين دون شروط مسبقة، وإعلان عودة العساكر الي الثكنات، والتنـحي عن المشهد السياسي تماماً، والتوافق على إصلاح قانون القوات المسلحة وبناء جيش قومي مهني واحد.
سادساً: التوافق على آليات تحقيق العدالة الانتقالية، لضمان عدم الإفلات من العقاب، وإنصاف الضحايا، ومحاسبة المسؤولين الذين ارتكبوا جرائم القتل والقمع في مواجهة الثوار والمدنيين.
سابعاً: التوافق على تشكيل مجلس القضاء الأعلى، ومجلس النيابة العامة، والمحكمة الدستورية، وفق معايير الكفاءة والخبرة العملية والمهنية.
ثامناً: كفالة حقوق الإنسان والحريات العامة سيما حرية التعبير والصحافة والإعلام، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
تاسعاً: إن السلام العادل الشامل هو من شعارات الثورة والتغيير، فهو ليس مجرد مناصب لقيادات الحركات الموقعة على إتفاقية السلام، لذلك فإن فتح حوار حولها يحافظ على جوهرها ويسمح بإستكمال عملية السلام وإقرارها في مؤتمر قومي للسلام.
عاشـراً: شابت العملية السياسية التي سهلتها الآلية الثلاثية كثير من الأخطاء، كما تأرجحت مواقف الأسرة الدولية والإقليمية أزاء الأزمة السودانية نتيجة إقحام السودان في الصراعات الدولية، وعليه أصبح من الضـروري إطلاق عملية سياسية جديدة وفق أسس واضحة محددة الأجندة والأطراف والزمن والضمانات ومدعومة دولياً وإقليمياً وفق ثوابت دعـم التحـول الديمقراطى وترفض الحكم الانقلابي.
النقاط أعلاه تمثل المنجيات العشر، للخروج من عنق الزجاجة الي رحاب الحل السياسي الشامل المفضي للتحول الديمقراطى، وبناء النموذج السوداني للثورة والتغيير، وفاءاً لأرواح الشهداء، وإستلهاماً للتاريخ، واستشرافاً للمستقبل، وانطلاقاً من عظمة هذا الشعب الذي لا يعجزه شي ويفعل ما يريد، على حد قول شاعرنا الكبير أزهري محمد علي:
يا دمنا المسفوح قبائل العيد
نتلاقى في وهج البشارات
والمعاني الخالده في بيت القصيد
دقت النوبات ودندنة الأناشيد
للولاد المارقة حوبات
الشهيد تلو الشهيد
وَيَا خريف الدم سلامات
نحنى بي موتنا بنزيد
والبموت شان وطنو ما مات
بتولد من أول جديد
جينا من رحم البسالات
جونا من بره الأجاويد
خلينا بالنا على البلاد
ختولنا في الجرح المراويد
جات كلاكلات إيد علي إيد
بري شمبات المسيد
جبره وأمدر
والحشود المارقة من كبري الحديد.
إنت بتكيد والشعب يفعل ما يريد.