١٨ يوليو ٢٠٢٢
رغم عديد الشواهد التي كانت تنذر بانفجار الأوضاع في ولاية النيل الأزرق، لم تقم سلطة الانقلاب بأية إجراءات استباقية لمنع الوصول لنقطة الانفجار، لكنها لم تتردد في استباق مواكب ١٧ يوليو السلمية في الخرطوم بإغلاق الجسور وبعض الشوارع الرئيسية، ولم تتوانى في نشر قوات من الأجهزة الأمنية ومواجهة المتظاهرين السلميين بقمعٍ مفرط، بينما احتاج مجلس الأمن والدفاع لأربعة أيام من القتل والحرق والرماد قبل أن يتداعى لاجتماع مساء الأمس “لبحث العنف القبلي في النيل الأزرق”.
مع استمرار الانقلاب سيواصل واقع وطننا الانزلاق للأسوأ مع كلِّ طالع شمس، لأن الانقلاب أشبه بشجرةٍ نبتت من بذرةٍ سامة وبالتالي لا تثمر غير عناقيد مترعة بالسموم .. الترياق هو وحدة المقاومين لاجتثاث هذه الشجرة المسمومة من فوق أرض الوطن.
خطاب سلطة الانقلاب، الذي ألقاهُ قائدها قبيل العيد، مَثّل إقراراً بفشل استراتيجية قمع حركة المقاومة الجماهيرية السلمية وتراجعاً تكتيكياً أمام تعاظمها خصوصاً بعد مواكب الثلاثين من يونيو الماضي .. أعلن ذلك الخطاب عن انسحاب المؤسسة العسكرية من مفاوضات العملية السياسية التي تيسرها الآلية الثلاثية، ولكنه أتبع إعلان الانسحاب بجعل المؤسسة العسكرية وصيةً على المشهد السياسي وممسكةً بخيوط نَسْجه ويتجلى ذلك في تحديد شروط تشكيل الحكومة التنفيذية، وعدم الإشارة لوجود مجلس سيادة مع إنشاء مجلسٍ أعلى للقوات المسلحة بسلطات مبهمة فيما يختص بالأمن والدفاع و “ما يتعلق بهما”، بالإضافة لسلطات أخرى تحدد لاحقاً، ومن المعلوم أن سلطة الانقلاب – قبيل إلقاء خطاب الفريق البرهان – سَلّمت الآلية الثلاثية مذكرةً مكتوبة حَوَتْ ذات النقاط التي وردت في الخطاب مضافاً إليها أن تكون الولاية على السياسة الخارجية وبنك السودان للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وأن يُمنع حملة الجنسية المزدوجة من المشاركة في الحكومة وألّا يكون هناك مجلس تشريعي، ما يعني ضمنياً أن تؤول صلاحيات السيادة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وأن يكون هذا المجلس مرجِعاً ورقيباً على تشكيل الحكومة المدنية وبرنامجها حول مختلف القضايا، أو على أقل تقدير أن يتم التفاوض معه لاعتماد تشكيل الحكومة وبرنامجها ولقبول وجود مجلس سيادة مدني ومجلس تشريعي .. إن القبول بهكذا سيناريو يعني أن ينسحب الجيش إلى ثكناته مصطحباً معه مفاتيح التحكم في تشكيل السلطة المدنية والمشهد السياسي برمته.
وبالرغم من ذلك لا يمكن إنكار أن خطاب الفريق البرهان – قبيل العيد – قد أحدث قدراً من الإرباك بين بعض القوى المناهضة للانقلاب، ومع ازدياد وتيرة تعقيد الأمور وتداعي الأشياء في كل فضاءات الواقع وتطلع السودانيين لانتشال وطنهم من شفير الهاوية ووضعه على سكة الأمان، رأى قطاعٌ منهم – من بينهم كُتّاب مشهود لهم بالانحياز للثورة – أن الخطاب اشتمل على تنازلات يجب أن تستغلها القوى السياسية، بل منهم من رأى في موقف قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة وغيرهما – من الخطاب – نوعاً من التعنت غير المنطقي.
وبصرف النظر عن مصداقية أو عدم مصداقية ما جاء في خطاب سلطة الانقلاب حول انسحاب المؤسسة العسكرية من الحياة السياسية، فإن على قوى الثورة أن تواصل حراكها السلمي مُشَدِّدةً على مبدأ الانسحاب هذا، وأن تؤكد على عدم علاقة المؤسسة العسكرية بأي حوار أو تفاوض حول تشكيل مؤسسات السلطة المدنية الانتقالية – السيادية والتنفيذية والتشريعية – وكافة قضايا الانتقال، وحصر دورها في الشؤون العسكرية “تحت إدارة السلطة التنفيذية المدنية ورقابة السلطة التشريعية المدنية” .. ذلك يتطلب أن يعي الجميع خطورة الأوضاع التي يعيشها الوطن حالياً، وأن ينهضوا لأداء الفريضة الغائبة وهي وحدتهم التي تُمَكِّن من تنسيق جهودهم ميدانياً وسياسياً عبر جبهة عريضة بقيادة مشتركة، ما يؤدي لتصعيد العمل الجماهيري السلمي المقاوم وتنويع أدواته لإنهاء الانقلاب وتحويل شعار خروج المؤسسة العسكرية من الحياة السياسية إلى واقع، والتوافق على إعلان سياسي شامل – يجمع شتات القوى المدنية المؤمنة بأهداف الثورة والتحول الديمقراطي – ويشكل أساساً دستورياً لتفصيل مهام ومدة الفترة الانتقالية وكيفية تشكيل مؤسسات السلطة المدنية، وتحديد دور المؤسسة العسكرية بما ينأى بها عن السياسة وشؤون الحكم وينتهي بها إلى مؤسسة مهنية موحدة تحتكر شرعية حمل السلاح للقيام بواجبها المُتعارَف عليه في دولة سيادة القانون والحكم المدني الديموقراطي.
إنّ وطننا يعيش زمناً صعباً وواقعاً معقداً مأزوماً تزداد معه المخاوف باقتراب لحظة الانهيار الكامل إذا لم يتم الاستدراك، ولكن لحسن الحظ فإنّ قرائن التاريخ تؤكد انتصار الشعوب في كلِّ الأزمنة إذا امتلكت رغبة التغيير وتوحدت إرادتها لإنجازه .. شعبنا يمتلك الرغبة في التغيير، وقد برهن على ذلك بتضحياتٍ جسام، وسيبلغ تمام النصر بعودة إرادة قوى الثورة والتغيير إلى خندقها الموحد.