1
ولدت هناك و لا ادري وطناً غيره
و في صغري ما كنت اظن انه هناك بلد اجمل منها و كانت كل احلامي الصغيرة تجد طريقة للتنفيذ. لم ارى صعوبة في الحياة و لم اتخيل كيف يمكن ان تكون الصعوبة.
فالخريف يحمل الخير و الخضرة و الزرع و المرعى لمواشينا و اسعد ايامنا كانت ايام الحصاد و الغريب ان معظم السنة فيها حصاد.
ففي بداية النصف الثاني من العام الميلادي يحصد الناس محاصيلهم البسيطة من البلدات القريبة (و الجبراكة) التي تروى بالمطر من ذرة شامي(عيش الريف) و فول سوداني و مختلف المحاصيل فيزول الشظف و الشدة التي تلازم بعض اوقات الخريف. و في نهاية العام تحصد المشاريع و البلدات الكبيرة البعيدة محاصيلها الكثيرة من سمسم و ذرة و دخن و لاحقاً زهرة الشمس فمن زرع يكون اغتنى و من لم يزرع يكون عاملاً و موظفاً او تاجر تجزئة او صاحب مخزن يستأجر او صاحب لوري ينقل و الكل سعداء.
و حتى الرعاة على وجود مشاكل بينهم و بين الزراع الا انها قليلة و يكونون اكثر سعادة بعد الحصاد فمن ناحية تتوفر مراعي لمواشيهم بعد الحصاد و من ناحية اخرى تنشط اسواق مواشيهم و منتجاتها بالشراء بالتزامن مع مواسم الحصاد.
و في نهاية الشتاء تنعم المنطقة بالمحاصيل الشتوية التي زرعت بعد الفيضان على النيل، او تلك التي زرعت في الوديان التي احتفظت بلينها بعد الخريف و ما اكثرها.
كل ذلك لم نذكر معه الخيرات التي يجلبها الرعاة عرب كنانة و رفاعة و الفلاتة الامبررو و لا منتجات الغابات من عسل تجلبه قبائل الانقسنا من جبالهم.
اما قصة الذهب في جنوب النيل الازرق و الصمغ العربي و منتجات الغابات فتلك قصة اخرى.
الكل يجد ما يفعله لمقابلة متطلبات الحياة بكل بساطة و بدون معاناة و ينطبق ذلك على المقيمين أو الوافدين.
منطقة لا ينقطع فيها خير الارض و السماء ابداً و انعكس ذلك على البشر فعاشوا سعداء على انغام الوازا في مواسم الحصاد
و فلكلور كل الاثنيات ينصهر و يمارسه الجميع فلا تفرق بين اثنية و اخرى و لا بين قبيلة و اخرى.
٢.
و لدت و درست كل مراحلي الدراسية عدا الجامعة في النيل الازرق و دفعتي و جيلي ما زال بيننا التواصل و نذكر ما كنا فيه من نعمة. فكلنا سمر مع اختلاف الدرجات و كلنا غبش مع اختلاف المصدر و لكن لم نعرّف بعضنا بعضاً بقبيلة او جهة بل حتى اخواننا من جنوب السودان الذين زاملونا في المدارس ليس هناك ما يفرقنا او يفرق بيننا الا حصة التربية المسيحية للبعض ممن يدينون بها.
٣
نتجول بدراجاتنا بين سوق الملجة و السوق الكبير و سوق الجملة في الدمازين و لا بد ان تنتهي جولتنا بموقف الرصيرص حيث نتوزع على مكتبتي الضوي و ابو دقن لنتخاطف مجلات ماجد و ميكي و الصبيان و الغاز المغامرين باختلاف ارقامهم و الشياطين ال ١٣ و قد نقود دراجاتنا احياناً الى الكبري و الخزان و في احيان نادرة قد يستمر المغامرون منا (و القادين السلك) من فوق الكبري مستمتعين بمنظر المياه المندفعة من خزان الروصيرص ملامسين لرزاز مياهه مواصلين الى قنيص شرق حيث رائحة السمك المشوي و قد يصل بعضنا الى الروصيرص تلك التي نعتبرها اجمل مدن الدنيا يحدها غرباً النيل ببساتين هي الاجمل و شرقاً بتلال خضراء و لم نكن نتخيل ان هناك في هذا الكون ما هو اجمل و انقي.
و نيمم غربا إلى محطة السكة الحديد يوم يأتي القطار المحلي أو المشترك و هناك يلتقي الجميع مستقبلين و مودعين في منظر قد يتكرر في مناطق أخرى و لكنه حتما ليس بتلك الروعة.
٤
اما الناس فلا تسأل عنهم و لو لا ان ظروف الحياة جعلتنا ننتشر في الارض لما عرفنا ان هناك قبائل و ان هناك اختلاف. بل و في طفولتنا الاقرب لخيالنا ان هؤلاء من فرط وداعتهم و بساطتهم كنا نحسبهم من جد واحد و ان اتساع الأرض هو ما فصل بين بيوتهم التي في الغالب لا جدران بينها و الى يومنا هذا عندما يلتقي زملاء الدراسة لا يعرف بعضهم لبعض قبيلة و لا انتماء سوى الانتماء للنيل الازرق.
٥
و انا طبيب و لي عيادة في احدى المجمعات الشهيرة في الخرطوم و وسط زحمة العيادة و الناس تدخل و تخرج اقتحم عيادتي رجل عليه سمات الوقار و الهيبة تعلو وجهه ابتسامة واثقة هو من نوع الاشخاص الذين يفرضون عليك احترامهم بمجرد طلتهم دون تفكير و بتلقائية وجدتني اقف احتراماً و وقوفي ليس بسبب ان هذا وجهاً مألوفاً لي بالرغم من انني لم اتذكره الا ان سمته و طلته مما يستدعي الاحترام و التوقير سلم علي و رددت السلام بسرعة و قبل ان اقول كلمة عاجلني بقوله:
- يا ابني انا ما عرفتك لكن من الاسم و اللافتة و الان من الشكل لا بد تكون من اولادنا
فجأة انزاحت عني غشاوة الذاكرة التي حجبها الانشغال و الانغماس في العمل و عرفت بسرعة ان الشخص الذي امامي هو المك يوسف و د عدلان ناظر عموم قبائل النيل الازرق و هو شخص فيه كل سمات الحكمة و القيادة و الكاريزما و بالرغم من اني لم احظ حتى ذلك الوقت بمعرفته عن قرب الا انني شعرت بالارتياح لانه عرفني من اسمي كما قال ثم لاحقاً من شكلي و هذا امر غريب فلا اسم عائلتي من الاسماء الاكثر شهرة في النيل الازرق و لا انا كشخص في ذلك الوقت بلغت شهرة تجعله يعرفني
اجبت: - نعم صدقت سيدي المك انا واحد من اولادكم فلان ود فلان و عمي صديقك و دفعتك و شرفتني زيارتك
اراد الخروج بسرعة بعد ان جاملني بعبارات الفخر كون ابناء ولايتنا قد انتشروا في كل مكان يحملون ارث الولاية و تقاليدها و ادبها فبادلته نفس العبارات و اننا نتاج ما زرعتموه من غرس طيب و ما نشرتموه من تسامح و تعايش فنشأنا نحب منطقتنا و نرتبط ببعضنا و نتعاون اذا التقينا خارجها و نرحم صغارنا و نحترم كبارنا و اننا لم نأت بشئ جديد و انما ذلك انعكاس لبيئتنا
استاذنت من المنتظرين في العيادة لعلي اقدم خدمة لهذا الزعيم المتفرد المتواضع و لكنه رفض و قال انني منتظر دوري في عيادة القلب و هو قريب. حاولت القيام بكل ما يتطلبه الواجب و تعرفت على ابنته المصاحبة له و وعدته بزيارة لمحل اقامته. التقيته مرة اخرى كانت الاخيرة في إحدى مراجعاته للطبيب ثم بكيناه بعدها بعامين لقد كان زعيما عظيماً و مثالاً للقيادة الحكيمة الصارمة المحبوبة و اتمنى ان تخلد تجربته و تدرس و كيف كان يجتمع حوله كل هدا الشتات و تنطفئ عنده كل الفتن قبل ان يسمع بها احد. و ليتنا نستنسخ مثله و ابنه صديقنا الفاتح الذي يجلس على كرسي مكوكية الفونج الأن مؤهل لذلك.
٦.
جلب لنا منتصف شهر يوليو ٢٠٢٢ أسوأ و اخر و ابعد ما كنا نتخيله من اقتتال على اساس اثني و قبلي في النيل الازرق، نرى الصور و الفيديوهات و نجري الاتصالات غير مصدقين. حتى اولئك المقيمين في الولاية عقدت السنتهم الدهشة و قد اخبرني الكثيرون انهم في غاية الصدمة و لا يستطيعون توصيف ما حدث و كيف حدث.
رحم الله الضحايا و شفى الجرحى و جعلها اخر الاحداث في الاقليم الوادع و هيأ الله لنا و لكل السودان امر رشد و خير و امن و سلام.
٧.
رسائل إلى هؤلاء: - الى كل قيادات المجتمع و الشيوخ و العمد و المكوك و النظار في النيل الازرق
- الى الاحزاب ذات الطابع القومي و الى القيادات الدينية
- الى المثقفين و النخب و القيادات المدنية و القيادات العسكرية السابقة التي عملت في النيل الازرق و حملت معها ذكريات طيبة
- الى المك الفاتح بن المك يوسف ود عدلان
- الى المك ابو شوتال و بقية العمد
- الى الناظر مالك ابو روف ناظر عموم رفاعة
- الى ناظر و عمد قبائل كنانة
- الى قيادات الفلاتة و سلطان مايرنو
- الى القيادات الأهلية من قبائل غرب السودان و الجزيرة و الشمالية و الشرق إلى الذين استوطنوا في ولاية النيل الأزرق و صاروا من اهم ركائزها و روابط نسيجها.
- الى قيادات قبائل الهوسا في النيل الازرق
- الى كل القيادات القومية و رجالات الادارة الاهلية في السودان الذين خبرناهم في ظروف مماثلة بل في ظروف أسوأ حققوا الصلح و التعايش و ضمدوا الجراح.
الى كل هؤلاء و اولئك تداعوا الى اجتماع و مؤتمر جامع قبل فوات الاوان فانتم اقدر على قتل الفتنة و وأدها و استئصال اسبابها و لتكون جهودكم في ولاية النيل الازرق و نجاحها ضربة البداية لانشاء الية قومية لحل كل المشكلات المشابهة في السودان
إنني على ثقة بأن ذلك ممكن.
ابنكم:
بروفيسور ولي الدين النور الفكي
من ابناء الولاية
عضو المكتب السياسي لحزب الامة القومي