(1)
قبل أيام عرضت قناة اس 24 على شاشتها حوارا اجراه مديرها الأستاذ الطاهر حسن التوم مع العميد عبد العزيز خالد قائد تنظيم قوات التحالف السوداني الذي كان قد اعتمد نهج الكفاح العسكري والزحف المسلح لإسقاط النظام، ثم عاد الى الخرطوم بعد اتفاقية القاهرة عام 2005 فغاصت قدماه في رمال الانقاذ المتحركة، ثم تاه في بحار السياسة “الانقاذوية”، وداخ (السبعة دوخات) في محيطاتها حيث لا مراسي ولا جزر. وانتهى الحال بحبيبنا العميد عبد العزيز خالد بأن شيّد لنفسه قصراً منيفاً في ضاحية كافوري على مبعدة أمتار من دار الرئيس المشير عمر البشير، ثم استقر فيه، جاراً كريماً، هو وأسرته الصغيرة، وذلك عملاً بحكمة سودانية سرية تقول: (الرئيس إن غلبك تسقطه بالسلاح أبني بيتك جنبو واسكن وارتاح). ما علينا!
(2)
أدهشتني إحدى افادات العميد عبد العزيز، في حوار اس 24 وهو يتداول ذكرياته عن حياة الجيش والسياسة ، ووجدت تلك الإفادة لافتة للنظر بصورة ملحة.
قال العميد حول واقعة نقل يهود الفلاشا الإثيوبيين إلى اسرائيل عن طريق الخرطوم بين عامي 1982 و 1984 أن ابن إخته العقيد، آنذاك، الفاتح عروة، أحد ألمع ضباط جهاز أمن الدولة “المايوي”( فترة حكم الرئيس السابق جعفر نميري) والمكلف بإدارة عمليات الفلاشا بالتنسيق مع جون ميلتون المندوب الرسمي لوكالة المخابرات الامريكية وجيري ويفر مسئول شئون اللاجئين بالسفارة الأميركية، أتى اليه، أي العقيد الفاتح، وابلغه بما يجري ويدور وراء الظهور، من أمر قضية الفلاشا وتفصيلاتها. ثم أضاف العميد وهو يتداعى بالحديث في مؤانسة تلقائية، وهنا مربط الفرس، أنه شرع على الفور في الاتصال بضباط القوات المسلحة وتمليكهم المعلومات السرية، بالغة الحساسية، التي أحالها اليه عقيد الأمن!
(3)
قضية الفلاشا الإثيوبيين تظل من أهم وأخطر القضايا الماسة بالأمن القومي في تاريخ السودان وأكثرها تعقيداً. وقد تضاربت حولها الرؤى وتكاثرت الروايات، غير أنني وجدت اكثر المطبوعات دقة في التحقيق ومتانة في التوثيق لوقائع هذه القضية كتاب الاستاذ مصعب أحمد مضوي، الصادر عن دار هايل للطباعة والنشر عام 1990، بعنوان (أسرار عملية تهجير اليهود الإثيوبيين من السودان إلى اسرائيل).
ويغطي هذا الكتاب الصغير الحجم جميع وقائع ما عرف في الأدبيات الاستخبارية بـ (عملية موسى) من ألفها الى يائها. ومن بين المعلومات التي وقفت عندها كثيرا عند مطالعته ما أورده المؤلف من أن ملف عمليات تهجير يهود الفلاشا الإثيوبيين عبر السودان الى اسرائيل جرى فتحه للمرة الأولى عام 1900، عندما التقى اليهودي الأوكراني الأصل بافل رابورت، الحاصل على الجنسية البريطانية، وكان يقيم بالقاهرة، اللورد كرومر وطلب منه بأن تسمح بريطانيا وتساعد بنقل الفلاشا عبر السودان الى أرض الميعاد، ولكن كرومر رفض الفكرة.
(4)
ما ذكره العميد عبد العزيز خالد من أن العقيد بإدارة الأمن الخارجي بجهاز أمن الدولة الفاتح عروة زوده بحقائق وتفصيلات العملية السرية، وأن العميد سعى بتلك المعلومات بين ضباط الجيش بغرض اضعاف النظام، واتخذ منها مادة لنشاطه السياسي داخل القوات المسلحة، يستحق وقفة تساؤل، بل قل جملة تساؤلات، في مقدمتها: ما هي دوافع العقيد عروة، وقبل ذلك ما هو منطقه ومسوغاته في النهوض الى تحمل مسئوليات مهمة أمنية في غاية الجسامة مثل تلك، يعلم مقدماً أنها قد تضعه مستقبلاً في موضع التجريم، وتعتبر السرية مرتكزاً أساسياً من مرتكزات نجاحها، ثم ينطلق في ذات الوقت الى تسريب ذات الأسرار ونقلها الى جهات معادية للنظام الذي يلعب هو نفسه دورا حاسماً في خدمة جهازه الأمني والاستخباري؟!
طيب يا سيدي، ها هو ذلك النظام قد سقط، وها هي المعلومات التي سعى صاحبنا لتسريبها قد بلغ ذكرها الآفاق، فما الذي حدث؟ الذي حدث انه تم اعتقال الرجل وايداعه غيابات السجن المركزي قيد المحاكمة، فلم يجد من وسيلة للنجاة بنفسه والفكاك من المصير المظلم سوى القبول بعرض النيابة بأن يكون شاهد ملك ضد رؤسائه السابقين. سبحان الله، ما الذي كان يتوقعه العقيد عروة؟ ما الذي يمكن أن يحصده المرء إذن في مثل هكذا سيناريو؟
(5)
عموما إذا لم يجب على تساؤلاتنا العقيد السابق، الفريق الفاتح عروة، فربما كان هناك شخص آخر هو الأقدر من غيره على الاجابة، وهو المشير عمر حسن أحمد البشير رئيس الجمهورية. وربما لم يكن الكثير من “السوادنة” يعلمون أن العقيد آنذاك عمر حسن البشير كان هو المحقق الذي استجوب اللواء عثمان السيد مدير المخابرات والعقيد الفاتح عروة المسئول عن عملية موسى، استجوابا تفصيلياً حصل من خلاله على أدق تفاصيل مجريات أحداث مسلسل الفلاشا. والذين عاصروا محاكمات الفلاشا الشهيرة عام 1986، برئاسة القاضي عبد الرحمن عبده يذكرون التسجيلات التي أمرت المحكمة بتشغيلها اثناء الجلسات وفيها كان المحقق يسأل والمتهمون يجيبون. بيد أن أقل القليل هم الذين تعرفوا وقتها على صوت المحقق، العقيد عمر حسن احمد البشير، الذي كان يوجه الأسئلة للمتهمين!
(6)
عملية الفلاشا كلها، من أولها الى آخرها، تبدو لي عملية عبثية. وما سمعته يجري على لسان العميد عبد العزيز خالد يجعلها أكثر هزلاً وخبالاً ومُجانة!
فوجئ “السوادنة” عند إجراء محاكمات قضية الفلاشا عام 1986 ببعض كبار معاوني المتهم الأول اللواء عمر محمد الطيب يشهدون ضده، بل ويسدرون في الإساءة اليه في همة وحماسة، فيتهمونه بما فيه وما ليس فيه، ويثيرون حوله شبهات الفساد. لا أعني بذلك شهود الملك، الذين كانت الشهادة ضد رئيسهم السابق مهراً لتبرئتهم واطلاقهم، بل كان منهم من لم يكن متهماً في الأساس. وخطر لي أن اتوجه بالسؤال، طلباً للتفسير، الى واحد من أبرز الشخصيات القانونية في فريق الاتهام الذي مارس دور الادعاء أثناء المحاكمة. أجابني الرجل، ويالها من إجابة!
الذي حدث هو أن أحد الدهاة من أعضاء فريق الاتهام قام بالتحقيق مع المتهم الأول اللواء عمر محمد الطيب. وأثناء التحقيق ذكر اللواء كلمات تشكيكية جارحة بحق بعض معاونيه السابقين، وأثار الشبهات حول احتمالات عمالتهم وموالاتهم لأجهزة استخبارات أجنبية. ولم يكن اللواء عمر يعلم أن المحقق قد أخفى تحت المنضدة جهاز تسجيل يرصد ويسجل كل كلمة صدرت منه!
بعدها قام ممثل الاتهام، الداهية، باستدعاء أكبر وأهم الشهود، وهو أحد أبرز معاوني اللواء عمر محمد الطيب، وكان متوقعاً ان يستبسل في الدفاع عن رئيسه السابق، ثم فتح في حضرته جهاز التسجيل ليستمع الى ما أثير في حقه من اتهامات وشبهات. هنا انقلب الرجل في موقفه 180 درجة، وقلب ظهر المجن لمن كان يرجو عونه!
ما زلنا عند البدايات. لم يكتمل حديثنا، وسنعود بمشيئة الله.
*كاتب صحافي مقيم في الولايات المتحدة
mustafabatal@msn.com