(أتوقف هوناً هنا عن متابعة نشر تقييمي لشهادة الرائد (معاش) عبد العظيم عوض سرور عن مذبحة بيت الضيافة (1971) لأدلي بوجهة نظر في محنة ولاية النيل الأزرق)
ربما كان الصدام الدموي المؤسف الذي وقع في الأسبوع الماضي بين جماعة الهمج والبرتي والسلطنات ضد جماعة الهوسا في ولاية النيل الأزرق بجنوب شرقي السودان هي مرتنا الأولى التي تأتي فيها الحكومة ب”عظمة النزاع” في الواقعة المضرجة. فقال بيان حكومة الولاية إن الخلاف شب لدي مطالبة الهوسا ب”نظارة” وهي أعلى الرتب قاطبة في نظام الإدارة الأهلية في السودان كما سيأتي. وزاد البيان بقوله إنه تعذر الاستجابة للمطلب لأن النظارة غير مأذونة شرعاً لمثل الهوسا التي تقيم في دار آخرين هم شعب السلطنات. وأضاف أنه صدر أمر من وزارة الحكم الاتحادي من قريب يسد الباب في وجه كل مطالب به. وبالطبع أزعج مطلب الهوسا في حد ذاته شعب السلطنات، فاحتجوا عليه، وصعدوا استنكارهم له إلى حد المواجهة الدموية بنطاقها الواسع إقليماً بعد إقليم في البلد وضحايا.
نتوقف هنا لنعطي خلفية لبولتيكا النظارة في نظام الإدارة الأهلية لنحسن فهمنا لماذا قدح مطلب الهوسا بالنظارة شرارة نار سياسية موقدة في النيل الأزرق. فالإدارة الأهلية هي المسمى عندنا ل”الحكم غير المباشر” الذي أدار به الاستعمار الإنجليزي “الأهالي” في أرياف مستعمراته في أفريقيا بتكلفة زهيدة. ففيه يعهد الاستعمار لزعماء العشائر مهمة إدارة أهلهم بما اتفق لهم من أعراف. فينظر في قضاياهم ويفصل فيها بسقف معلوم، ويقوم بتقدير الطلبة وجمعها، وغيرها من المهام تحت إشراف مباشر لمفتش المركز لإنجليزي في الجهة. ولم يقع الإنجليز في السودان على الحكم غير المباشر، الإدارة الأهلية، إلا بعد نحو ثلاثة عقود من حكمهم في أعقاب ثورة للمتعلمين من خريجي مدارسهم في 1924. وهم الذين ادخرهم الإنجليز ساعداً لهم في إدارة المستعمرة بصورة مباشرة. وأزهدت تلك الثورة الإنجليز في المتعلمين من عضوا يد إحسانهم لهم. فانتقلوا منذ آخر عشرينات القرن الماضي للتحالف مع الزعامات القبلية.
أدى قيام الإدارة الأهلية إلى نشوء ثلاث صور للمواطنة في السودان. فالصورة الأولى هي أهل المدينة الذين يتحاكمون إلى قانون يرعى الحقوق المدنية والسياسية العالمية. وهم بذلك خلاف “الأهالي” في الأرياف الذين يحتكمون إلى أعراف إثنية تقوم عليها إدارة أهلية. ونشأت بسبب نظام الإدارة الأهلية، من الجهة الأخرى، مواطنتان في الريف نفسه بسبب تشريع الإنجليز لعرف تقليدي تاريخي يفرق بين بين “الأهالي” أنفسهم. فالمواطنة الأولى هي مواطنة الجماعة صاحبة الدار (أو الحاكورة في مصطلح إقليم دارفور) التي تقطنها. أما المواطنة الثانية فهي مواطنة الضيف على أهل تلك الدار. وتخضع الجماعة الضيف للجماعة صاحبة الدار في علاقة معروفة ب”التبع” (client tribe). وورد أفضل تقنين لعلاقة التبع في العهد الاستعماري في حكم أصدره القاضي كفن دي سي هيز حول خلاف نشب بين صاحب دار وضيف عليها عام ١٩٥٣. فرد القاضي الجماعة الضيف عن مطلبها بالنظارة فوق أرض تقتطعها من دار مضيفها، والزمها بأعراف التبع. ومن أعرافه دفع مكوس معلومة للقبيلة سيدة الدار للزراعة في أرضها والسقيا من مائها مقابل انتفاع التابع من أرض لا حق أصالة له فيها.
ومربط الفرس هنا في النظارة. وهي الوظيفة التي تقصرها الأعراف وقانون الإدارة الأهلية تاريخياً على الجماعة صاحبة الدار لا يطمع فيها طامع من غيرها. فالنظارة جاه سياسي يدير به شاغله “دولته” الصغيرة من المواطنين والرعايا. ويكتفي الرعايا من الإدارة الذاتية في غير دارهم ب”شياخة” أو “عمودية” مرجعيتها الناظر في ضرائبها للحكومة، وقضائها، وكل تصريف لشأنها.
وفي أعراف التبع ما يشي بأن الدار دولة لأهلها. فمحرم على التبع مثلاً أن يضرب نحاسه القبلي في عرض الدار مثلما لا تأذن دولة بعلم آخر يرتفع فوق ساريتها. وصح القول أن الجماعة التبع مما يخضع لعلاقة استعمار داخلي، لو شئت، تُفرض عليها الضرائب بينما تتجرد من الصوت السياسي حتى في نطاق عيشها اليومي. ولذا كان مطلب القبيلة التبع للنظارة، بدار أو بدونها، بمثابة “حركة وطنية” للخلاص من استعمار مالكي الدار. وكان منح بعضهم النظارة منذ ثلاثة أعوام بعد قرن من المطالبة الحثيثة بها، في قول زعيمها، بمثابة تحرر وطني وعيداً للاستقلال.
ونواصل