السودان البلد الغني بالبترول والذهب واليورانيوم والنحاس والكوارتز والكروم والماشية والمحاصيل الزراعية والغابية والصحراوية، البلد الذي يمتد مناخه من الاستوائي مروراً بالسافنا الغنية وشبه الغنية ثم الصحرواي وشبه الصحراوي، استخرجت الشركات الصينية نفطه إبان حقبة الدكتاتور ففسدت بطانة وحاشية هذا الدكتاتور المتدثر برداء الدين، فبنت الشواهق من ناطحات السحب بالعواصم الشرق آسيوية والمدن الشرق أوسطية، وتركت ديدان الفقر تنهش عظام أصحاب الملك الحصري لمورد هذا الذهب الأسود، فأمسى حال البلاد كحال كثير من بلدان إفريقيا المعطونة في الفساد وسوء الإدارة والاعتداء على المال العام، فالحكام يزدادون غنىً والمحكومون يرزحون تحت نير المرض والجوع والجهل، وكبار رجالات الدين المزينين للدكتاتور استباحة دماء المواطنين يأكلون مع الآكلين هذه الأموال المولّدة من تصدير النفط، لقد عكفوا في ليلهم ونهارهم يحللون الحرام ويحرمون الحلال لأولياء نعمتهم، من الجنرالات والأفندية المسيطرين على هذا المورد الهام، حتى قال عنهم كبيرهم الراحل قولته المأثورة مؤكداً فسادهم الجهير : (لقد أكلوا الأموال أكلاً عجيباً)، ففي أواخر عهد الدكتاتور تفجّرت هذه الأرض الحلوب ذهباً أصفراً يرسل الدولارات إلى جيوب الفاسدين مطراً مدرارا، حينها فتح شرياناً لتغذية روسيا العظمى بهذا الكنز العظيم، ثم ما لبث خلفاؤه من الجبابرة الجدد أن سلكوا ذات الطريق المؤدية إلى موسكو.
دخلت البلاد بطولها وعرضها في صراعات عمالقة الإقتصاد العالمي بحكم أنها الأغنى مورداً خاماً والأفقر عقلاً سياسياً ونزاهة وطنية، وقد فضّل إبن البلد العاق أن يكون وسيطاً للغريب لكي ينال من شرف بلاده، فجميعنا شاهد البرنامج الذي بثته قناة سي إن إن الأمريكية المخصص لتغطية نشاط شركة فاغنر الروسية بالسودان، وكيف أن مراسلة القناة ولجت مجاهيل مناجم تنقيب الذهب، وكشفت المستور لأول مرة حول ما يجري بأرض الوطن من أنشطة اقتصادية سريّة، متلبّدة وراء غيوم الدكتاتورية القابضة على مفتاح السلطة، المنقلبة على حكومة بصيص الأمل التي قادها الموظف الأممي الشهير ثلاث سنوات، دون أن يتمكن من تفكيك القبضة الحديدية للنظام القديم المتجدد المتحكم فيه من قبل الرأسين الكبيرتين، وبينما يموت المراهقون الصغار على أرصفة المدن المهترئة التي تذهب أموالها الذهبية لإشباع نهم الدكتاتوريين الجدد، تتمدد سيقان هؤلاء الجبابرة في تعنت مقيت وتتمادى أياديهم في ضرب عرض الحائط بالطموح المشروع للمُلّاك الحصريين لهذه الدجاجة التي تبيض ذهباً، ولا سمع ولا طاعة لمن لا يملك المال المدهون بعرق الارتزاق ودماء الصغار المتطلعين نحو سؤدد وطن الحرية والسلام والعدالة، إنّ لعنة هذه البلاد ومنذ غزوة حاكم مصر محمد علي باشا ظلت كامنة في مالها ورجالها، الذين كانوا ومايزالون تُستأجر سواعدهم لخوض غمار حروب المكسيك وجزيرة القرم والسويس وليبيا واليمن.
الأمريكان كشّروا عن أنيابهم وشمّروا عن سواعد جدهم وقالوا لا لفاغنر بوتين في السودان، عبر هذا التقرير المقتضب الذي قدمته قناة سي إن إن، ويبدو أن بلاد السودان ليست بذلك الهوان الذي يظنه بعض اليائسين وكثير من الخائنين، فالبلاد أصبحت بين فك دب ثلجي قاضم ومنقار صقر أمريكي جارح، وكعادة الجبهة الداخلية تعيش أسوأ أيامها من تفكك وتضعضع وتفش للكراهية الجهوية والبغضاء العرقية، وهي ظواهر مرتب لنشوءها وتطورها بدقة متناهية وليست كما يعتقد الكثيرون من ذوي النوايا الحسنة، فعندما تتصارع الأفيال الأمريكية والدببة الروسية تتمزق أرض السودان المكسية بالحشائش وتتسخ، ومما هو بائن أن الطغمة العسكرية الحاكمة قسراً ذاهبة إلى دركٍ أسفل، في الوقت الذي تجري فيه ترتيبات البيت الداخلي وتهيئة المناخ للبديل المدني الديمقراطي، هذا مع الأخذ في الأعتبار دائماً وأبداً إنقسام القوى السياسية الذي أصبح تقليداً معهوداً لدى الساسة ورجالات الدولة عبر الحقب، إذ أنه لم يحدث أن ارتقت هذه القوى لمستوى تحديات التنافس الاقتصادي العالمي، بحيث أنها عملت على ترجيح كفة أولوية رفاهية كافة الناس الذين يستحقون ذلك، بل ويملكون مقومات هذا الرفاه المستحق عملياً وليس نظرياً، لم تنهض هذه القوى من جلستها التي طالت واستطالت لتعانق مطلوبات هذه الأولوية، فعليها أن تغادر محطة المراهقة السياسية التي عكستها صدامات تظاهرات باشدار بحي الديم في جنوب الخرطوم.
ismeel1@hotmail.com