في صيف العام 1980م، راقت لي فكرة الالتحاق بخلوة ود الفادني جنوب مدينة الحصاحيصا على بعد عشر كيلومترات، فذكرت ذلك لوالدي ــ رحمه الله ــ والذي وافق على الفور وفي اليوم التالي جهزت شنطتي وأخذني الخال عبد الماجد الزين بواسطة (التراكتور) وأخذت معي (عنقريب) وتحركنا صوب ود الفادني التي لا تبعد عنا أكثر من ثلاثة كيلومترات. عند ولوجنا إلى خلوة ود الفادني والتي تقع شرقي القرية ذهبنا مباشرة إلى مقابلة الخليفة الريح الخليفة حمدالنيل شيخ الخلوة والذي كان يعرفه خالي أشد المعرفة لأنه يقوم بحراثة حواشاته.. بينما كانت بالنسبة لي المرة الأولى في حياتي التي أراه فيها، فهو رجل تبدو على سمته الوقار والهيبة، يرتدي جلباب قصير وطاقية بيضاء على رأسه، يسند ظهره على عنقريب (سرير) هباب جالساً على الأرض .. وعلى الفور أتوا لنا بعصير (فرات كولا) ورحب بي أشد ما ترحيب خاصة وإنه يهتم أشد الاهتمام بطلاب المدارس الذين يأتون إلى الخلوة في فصل الصيف للدراسة بها. ما هي إلا لحظات ونادى الشيخ على أحد مشايخ التحفيظ بالخلوة وقال له هذا ولدنا (المبروك) جاء لحفظ القرآن وأوصاه بالاهتمام بي.. وتم توزيعي على الطلاب الذين يأتون في فصل الصيف خلافاً للطلاب الدائمين فهؤلاء هم أساس الخلوة وعمادها ولا يتركوا الخلوة إلا وقد أكملوا حفظ الله تماما.. نمت ذلك اليوم في عنقريبي وكانت المرة الأولى الأخيرة حيث ظل هذا العنقريب منزلاً للضيوف فكلما جاءنا ضيف نام على عقريبي حيث كان السواد الأعظم من الطلاب ينامون على الارض وقد أتوا من بقاع شتى من السودان ولكن من الملاحظ أن أكثر الطلاب في ذلك العام كانوا من (الصحافات) الخرطوم، وكان من حسن حظي أن ألتحق بي بعد أسبوع الأخ أسامة المبارك محمد صالح وتبعه شقيقة الراحل ياسر المبارك. لم يقتصر دورنا في الخلوة على حفظ القرآن بل كانت لنا مناشط أخرى في الخلوة وهي إصدار نشرة حائطية بالخلوة وكتابة الأدعية المأثورة وبعض المسابقات التي كان يعقدها الطلاب وطوال فترة إقامتنا بالخلوة لم تصدر عقوبة لأي من الطلاب وكان لا ينزلوا علينا أي عقوبات خلافاً لأولاد الخلوة الرسميين. وللخلوة نظام عجيب حيث يبدأ اليوم الدراسي في الخلوة في الرابعة صباحاً بحفظ المقرر اليومي، وتحديد مقدار ورد الحفظ اليومي متروك للطالب وهمته وقدرته، فبعضهم يحفظ «ثُمُناً» ويُسمى «لوح» وبعضهم «نصف الثُمُن» ويُسمى «الخَرَّوبَة» وبعضهم أكثر من ذلك، وبعضهم أقل، وتستمر هذه الفترة إلى ما بعد صلاة الفجر حتى السابعة والنصف صباحاً، وتسمى هذه الفترة «الدُّغِيشة». بعدها نستمر في الحفظ حتى العاشرة والنصف حيث نذهب إلى الفطور المُعد مسبقاً من قبل أسرة الخليفة خلافاً للطلاب الدائمين حيث إنهم يقومون بإعداد طعامهم (الدغمه) وهي عبارة عن قدح دائري كبير جداً يصل طوله إلى مترين يقوم الطلاب بصناعة الطعام فيه وللخلوة طاحونة خاصة بها جوار المسجد، وبعدها مباشرة نخلد للنوم وتسمى (القيلولة)، نصحى بعد تلك القيلولة ونصلي الظهر ونواصل في الحفظ حتى الساعة الثالثة عصراً حيث نذهب إلى تناول وجبة الغداء ومن ثم نواصل إلى صلاة المغرب، عندها تذهب إلى شيخك للتسميع ومسح اللوح استعداداً لليوم التالي.. وبعد صلاة العشاء نقوم بحركة سير دائرية حول المسيد وكل اثنين مع بعض يقوم كل واحد بالتسميع للآخر ويسمى بـ (السبع) يستمر هذا الحال إلى العاشرة مساء عندها نذهب إلى العشاء ونخلد للنوم بعد يوم شاق ورهق شديد. يحفظ الطالب القرآن بود الفادني في مدة زمنية أقلها سنتين وأعلاها أربع سنوات، ومصطلح «حافظ» في الخلوة ليس بالمعنى المتبادر للأذهان، إذ أن الحافظ هنا هو من ختم حفظ القرآن ختمة أولى تستغرق حوالي سنة وشهرين وتُسمى «الشُّقَّة» وهي كلمة دارجة سودانية تعني العبور، ثم يختم مرة ثانية بعد ثمانية أشهر وتسمى «العودة الأولى» بمعنى «الإعادة الأولى»، ثم يختم مرة ثالثة خلال ثلاثة أشهر، ثم يعرض الطالب على شيخه القرآن كله وتُسمى «التصنيف»، ثم يجيزه الشيخ أو يأمره «بعودة أخرى» ولا يستطيع الطالب أن يرفض أو يحتج وذلك لأن حكم الشيخ بعدم حفظه سوف يسري عليه طول حياته حتى ولو عرض القرآن من حفظ على الملأ !