المشهد السوداني تتقاطفه مبادرات عنوانها مزيد من الإنقسام والاستقطاب، وكادت تضيع القضية الرئيسية وسط صـراع الأطراف وإزدحام المواقف، تنطلق محددات القراءة الواقعية لتطورات المشهد من قضية تشكيل حكومة انتقالية مدنية، وجدلية الاستقرار أم والتحول الديمقراطى.
فإذا نظرنا الي أهـم المبادرات المطروحة الآن في الساحة السودانية ندرك عمق أزمة العقل السوداني، وتعقيدات المشهد وتمظهراته، والإبتعاد عن المخرج الآمن كلما زاد الوعي بالمخاطر التي تحدق بالوطن، فكان من المأمول استشعار المسئولية الوطنية للحيلولة دون إنهيار الدولة نتيجة لإستمرار التجاذبات السياسية والصراعات القبلية وانتشار خطاب الكراهية والعنصرية والتحشيد الديني والتقلبات الأمنية والمعاناة المعيشية التي أفرزها إنقلاب ٢٥ أكتوبر، وبالرغم من إدراك العسكريين خطأ جريمة الإنقلاب والاعتراف بفشله، وبالرغم كذلك من تنادي القوى السياسية والمهنية والمدنية والثورية والمجتمعية وحركات الكفاح المسلح لورشة الحوار حول الإطار الدستوري الانتقالي التي نظمتها نقابة المحامين السودانيين، إلا أن المشهد زاد تعقيداً وينذر بإتساع دائرة الاستقطاب وولوج مرحلة ما بعد إنسـداد الأفق مفتوحة النتائج.
فإذا استعرضنا المبادرات المطروحة ندرك بدون عناء إستعصاء الحل السياسي المفضي لحكومة مدنية انتقالية، والتباين بين أيهما أولاً عملية الإستقرار أم عملية التحول الديمقراطى، كأنهما متناقضتين، فمثلاً:
مبادرة الشيخ الطيب الجد ود بدر تحت مسمى نداء أهل السودان، والتي قوامها فلول النظام المباد، والتي تسعى لتشكيل حكومة انتقالية مدنية بمباركة ومشاركة العسكر كحاضنة سياسية جديدة دون إعتبار لعمليتي الاستقرار والتحول الديمقراطى.
مبادرة التحالف الجذري القائم على التحالف الراسخ بين الحزب الشيوعي مع الجباه الديمقراطية، والتي تسعى لإقصاء قوى الحرية والتغيير من المشهد وتشكيل حكومة انتقالية مدنية طويلة المدة وفق نهج راديكالي لايكترس بالاستقرار السياسي والتحول الديمقراطى.
مبادرة مجموعة التوافق الوطني وقوامها بعض أطراف السلام والقوى المتحالفة معها، والتي تسعى لإعلان سياسي يضمن استمرارها في السلطة ويؤسس لبرنامج الحكومة الانتقالية المدنية، بالتركيز على الاستقرار بدلاً عن التحول الديمقراطى.
مبادرة قوى الحرية والتغيير والقوى التي لها مصلحة في الديمقراطية من مجتمع مدني ونقابات مهنية وقوى اجتماعية، والتي تسعى لإعلان دستوري انتقالي يضمن توحيد قوى الثورة والتغيير وينتج حكومة مدنية انتقالية بدون شراكة العسكريين وفقاً لأجندة التحول الديمقراطى كمدخل للاستقرار السياسي.
مبادرة قادة الانقلاب وقوامها العسكريين، والتي تسعى لإنتاج حكومة انتقالية مدنية متحكم فيها تحفظ تموضعهم في السلطة السيادية وتحميهم من الملاحقات الجنائية وتعزز مكتسبات المؤسسات العسكرية والأمنية، والتي تقوم على الاستقرار على حساب التحول الديمقراطى.
بقراءة بسيطة لهذه المبادرات نجد أن المتفق عليه تشكيل حكومة انتقالية مدنية، مع اختـلاف مداخـل وطـرق تشكيل هذه الحكومة، هل تتم وفق نظرية إقصائية ام اعلان سياسي ام برنامج انتقالي ام شراكة العسكر ام إعلان دستوري.
لا مناص من عودة العسكر للثكنات وإبعاد العسكريين عن العمل السياسي وخضوع المؤسسة العسكرية لقانون القوات المسلحة ولسياسات الحكم المدني، كخطوة ضرورية لإنهاء الإنقلاب وتهيئة البلاد لمرحلة انتقالية مدنية جديدة بتسليم السلطة للمدنيين، فأي تراجع عن ذلك يعني إدخـال البلاد في مأزق وجودي.
من جانب آخر فإن بلادنا لا تحتمل المزايدة والاقصاء والشطط، فالمواقف الراديكالية هي المسؤولة عن ضياع الفترة الانتقالية السابقة وتأخير وحدة قوى الثورة والتغيير لإسقاط الانقلاب.
كما أن أي عودة للوراء والتصالح مع تجمعات الفلول والسماح لقوى الردة السياسية التي إستدعاها الإنقلاب تحت اي مسمى حتماً ستفتح الباب أمام الفوضـى والاستبداد والحرب الأهلية.
بلا شك أن بلادنا تحتاج إلى مشروع وطني يؤسس للعقد الاجتماعي الجديد، ويستفيد من تجارب الماضي في مخاطبة المهام الوطنية التي طرحت منذ فجر الإستقلال، ويحقق حكم مدني لفترة انتقالية تفضي إلى سلام عادل وتحول ديمقراطي وعدالة اجتماعية، تنتهي بانتخابات حرة وشفافة ونزيهة ترسم ملامح المستقبل الواعد، وذلك لا يتأتى إلا عبر وحـدة قوى الثورة والتغيير والتوافق على إعـلان دستوري جديد مستمد من تجاربنا الديمقراطية، ومنطلق من تجميع كافة المواثيق للوصول إلى أرضية مشتركة للتوافق على متطلبات المرحلة وخصوصيتها، وتشكيل حكومة انتقالية لفترة قصيرة تنفذ مهام الانتقال بمشاركة واسعة تمثل إرادة الشعب.
يجادل الشموليون بأن المرحلة الانتقالية معنية بالاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي وغير معنية بعملية التحول الديمقراطى، ويروجـون الي أن الشعب يريد الأمن ولقمة العيش وتحسين مستوى الخدمات والاقتصاد، وأن المجتمع الدولي والإقليمي معني بالاستقرار للمحافظة على مصالحه، متناسين عمداً خروج الشعب السوداني مطالبا بالحرية والديمقراطية والعدالة والسلام، وكذلك مواقف المجتمع الدولي والإقليمي المؤكدة على حتمية تسليم السلطة للمدنيين وعزل الانقلابيين ودعم التحول الديمقراطى.
والمعـلوم بالضـرورة أن الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي مرتبط عضوياً بالتحول الديمقراطي كعملية لا يمكن تجنبها لتصفية دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن وترسيخ الحريات وإقرار الشفافية والنزاهة والمحاسبية ومحاربة الفساد وبناء السلام وتحقيق العدالة، كل هذه المعطيات والعمليات لا يمكن لها أن تتم الا بالديمقراطية، عطفاً على أن المؤسسات الأمنية والعسكرية وقوى الردة والثورة المضادة هي التي تُـعرقل بالفعل عملية الإستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني وبالتالي التحول الديمقراطى، فالاستقرار ثمرة التحول نحو الديمقراطية وليس بديلاً عنها.
الدعوة للاستقرار بمعزل عن التحول الديمقراطى دعوة باطل اريد بها باطل، ومن ينادي بذلك من الأكاديميين والعسكريين والسياسيين يكرس لاستمرار الإنقلاب ويعكس حالة من البؤس والشفقة، فالديمقراطية عائدة وراجحة حتـماً وان طال السـفر.