روزنامةُ الأسبوع
الاثنين
منذ حين والمبادرات السِّياسيَّة تتكاثر، أميبيَّاً، في بلادنا، حتَّى برز على خطِّها، مؤخَّراً، الحزب الاتِّحادي الدِّيموقراطي، بما روَّج له حواريو الشَّيخ الطَّيِّب الجِّد حول دمج مبادرته مع مبادرةٍ للميرغني كان طرحها في مارس الماضي، مستغلِّين، في ما يبدو، البُعد الفيزيقي للزعيم الاتِّحادي، وصمته المتطاول، وخلوِّ صفِّه الأوَّل من معظم القادة التَّاريخيِّين، كالشَّريف حسين، والحاج مضوي، وعلي محمود، وكذلك حرص ابني الزعيم، الحسن وجعفر، على تفادي الانتطاح في دنيا ما يزال يعمرها حضور أبيهما، وافتقار المتزاحمين في المواقع الأدنى للكاريزميَّة وطاقة الإلهام، لولا تصدِّي البخاري الجعلي، خاطف اللونين الصُّوفي والسِّياسي، لنفي الدَّمج المدَّعى به!
هكذا خسر الشَّيخ الجِّد تطلُّعه لأن يتلفَّع بمعطف الميرغني، بعد أن خسر، العام الماضي، فرصة الامساك بعصا حميدتي المارشاليَّة .. وتلك قصَّة يدهشني ألا يكون ملمَّاً بها أكثر من يشتغلون باستراتيجيَّات السِّياسة السُّودانيَّة! فالشَّيخ الجِّد، قاضي المحكمة العليا المتقاعد، وصاحب الهوى الإسلاموي منذ الجَّامعة، ومهندس حشود التأييد لحملات المخلوع الانتخابيَّة، والمتنازل للنِّظام البائد في قضيَّة أراضي الجِّريف شرق الشَّهيرة خلال الأعوام 2013م ــ 2015م، كان أعلن، في رمضان قبل الماضي (2021م)، عن إنشائه منظَّمة مجتمع مدني مهيكلة برئيس، وأمين عام، وغيرهما، وأطلق عليها، للعجب، «مبادرة حماية الثَّورة»، فلا يتطرَّقنَّ إلى ذهنك أدنى شَّكٍّ، وأنت تسمع هذا الاسم الطَّنَّان، في أن المقصودة حماية ثورة ديسمبر المجيدة! الشَّاهد أن أهمَّ نشاطات تلك المنظَّمة، آنذاك، كان تنظيم إفطار رمضاني جماعي دعوا إليه حميدتي كضيف شرف! على أن الأخير كشف اللعبة، على نحو ما، لمَّا تبيَّن له أن مضيفيه محض إسلامويِّين يلعبون سياسة بالبيضة والحجر! فما أن قدَّموه ليخاطب حفل افطارهم، حتَّى انبرى يحذِّرهم، مباشرة، كإسلامويِّين، بالاسم والرَّسمدون، دون أدنى مواربة، مِن أن يظنُّوا أنهم وحدهم المسلمون في هذه البلاد، فليكفُّوا، إذن، عن هذا الوهم الدَّهين! ثم تناول إفطاره، بهدوء، وانصرف، فانصبَّ مطر مدرار على رؤوس الشَّيخ الجِّد وجماعته، ألزمهم، منذ يومها ذاك، صمتاً كثيفاً عن مبادرتهم المجهضة تلك!
بغير تلك الخلفيَّة يصعب فهم دوافع حميدتي للحديث الذي أدلى به، مؤخَّراً، في المؤتمر الصَّحفي الذي عقده بمطار الخرطوم، فور عودته من دارفور. ففي إجابته على السُّؤال عن موقفه من مبادرة الشَّيخ الجِّد، قال: «نحن لا نقبل كلَّ مبادرة تقدَّم لنا .. لقد جاءنا منهم، بالجِّنينة، من عرضوا علينا المبادرة، فطلبنا أن نعرف حقيقة من يقف وراءها! وقالوا إن 14 لجنة قد تكوَّنت في إطارها، فطلبنا إطلاعنا على أسماء أعضاء هذه اللجان»!
هكذا بادل حميدتي الاسلامويِّين لعباً سياسيَّاً بلعب سياسي، قاصداً حملهم على أن يكشفوا، بأنفسهم، أوراقهم التي ظلوا يخفونها منذ العام الماضي! ويمكن لمن شاء أن يعتبر ذلك مكراً ودهاءً من الرَّجل .. فلا تثريب عليه!
لكن ها هو الشَّيخ يغيِّر، هذا العام، خطَّته، فيتحاشى مجرَّد الإشارة لمبادرة العام الماضي، طارحاً، بدلاً منها، مبادرته الجَّديدة التي سارع البرهان للتَّرحيب بها، وتُعرف، حيناً، باسم «مبادرة أهل السُّودان»، وحيناً آخر باسمه الشَّخصي الذي يحرص، بعكس المبادرة السَّابقة، على ربطه، جيِّداً، بـ «التَّصوُّف»، عالماً، بحكم تدريبه الاسلاموي، بما في هذا الرَّبط من سحر في أذهان العامَّة!
على كلٍّ، ومهما يكن من أمر، فلئن كانت أغلب خسارة الشَّيخ، في العام الماضي، قد ترتَّبت على خطأ في الحساب «السِّياسي»، فإن عودته، هذه المرَّة، مشوبة بجملة أخطاء مزدوجة لجهتي السِّياسة والتَّصوُّف معاً! ولعلَّ أبرز هذه الأخطاء اعتماده، لأجل ترويج المبادرة، على رموز لا يخفى ارتباطها بالنِّظام البائد، كمبارك الفاضل، وعبد الرحمن الصَّادق، وأحمد سعد عمر، ومحمد الجزولي، وناجي مصطفى، وعادل البشير الذي حاول الإيهام بأن حضوره إحدى فعاليَّات المبادرة جاء بالإنابة عن الطَّريقة القادريَّة العركيَّة، لولا أن الأخيرة سارعت لإصدار بيان نفت فيه تلك الإنابة بتاتاً! كما تتمثَّل هذه الأخطاء، كذلك، في عدم تدقيق الخطاب، الأمر الذي نتج عنه أن أكثر «الطُّرق الصُّوفيَّة» و«التَّيَّارات السِّياسيَّة» التي استُهدفت بالتَّحشيد، ورصِّ الصُّفوف خلف المبادرة، سارعت، وما زالت تسارع، يوماً بعد يوم، للتَّبرُّؤ من أدنى صلة لها بها! ففضلاً عن تصريح الاتِّحاديِّين الذي أطلقه البخاري الجعلي، مِمَّا سلفت إشارتنا له، وعن مختلف التَّصريحات، والتَّحليلات السِّياسيَّة الأخرى، فقد ناهضت المبادرة، أيضاً، وعلى سبيل المثال، «رئاسة سجَّادة الطريقة القادريَّة العركيَّة»، التي لم تكتف بمجرَّد إعلان رفضها لها، وإنَّما هاجمتها بضراوة منقطعة النَّظير، عبر مختلف منابرها وبياناتها التَّنويريَّة، كما حدث في مقام الشَّيخ حمد النيل بأم درمان، حيث أكَّدت ألَّا علاقة لها، البتَّة، بهذه المبادرة التي وصفتها بأنّها «لا تتَّفق ومبادئ الثَّورة»، ولذا نفت أنها يمكن «أن تكون طرفاً فيها»، وهاجمت «انقلاب 25 أكتوبر لاستهدافه الشَّرعيَّة»، معلنة دعمها للتحوُّل الدِّيموقراطي المدني، وشجبها لاستغلال الدِّين والتصوُّف «مطيةً لمآرب سياسية رخيصة»! كما اتَّخذت ذات الموقف مؤسَسات وشخصيَّات صوقيَّة مختلقة، من بينها علي هاشم السَّرَّاج، الأمين العام السَّابق للمجلس الأعلى للتَّصوُّف، الذي ركَّز بيانه على فضح العلاقة بين المبادرة وبين النِّظام البائد، بقوله: «إن لدينا عقولاً تفهم، فلا يمكن أن تُسوَّق لنا مبادرة تنتسب للتَّصوُّف عن طريق شخصيَّات كعبد الرحمن الصَّادق ومبارك الفاضل»! ثمَّ انبرى ينصح الاسلامويِّين، مباشرة، باعتبارهم أصحاب المبادرة الحقيقيِّين، قائلاً لهم: «لقد مُنحتم 30 سنة في الحكم، بما يفوق مدَّة الـ 23 سنة التي مُنحها النَّبي الكريم نفسه، فكفاكم .. وما يزال حبل المواقف الصُّوفيَّة والسِّياسيَّة على الجَّرار!
أمَّا المحفل الذي أقامه أهل المبادرة بقاعة الصَّداقة بالخرطوم، يومي السَّبت 13 والأحد 14 أغسطس، فيذكِّر، شكلاً ومحتوى، بمحفل «حوار الوثبة»، وسائر المحافل التي درج النِّظام البائد، حزباً وحكومة، على تنظيمها، والتَّحشيد فيها، دليلاً إضافيَّاً على أن الهدف الرَّئيس من وراء هذه المبادرة ليس سوى إعادة الفلول من الشِّبَّاك بعد أن لفظتهم ثورة الشَّعب من الباب!
الثُّلاثاء
قال محمد الفكي سليمان، العضو السَّابق بمجلس السَّيادة: «إن طموح معظم أهل السُّودان قد تقاصر عن أن تقدِّم لهم الدَّولة أيَّة خدمة مُستحقَّة، وانحصر، فقط، في أن تتركهم هذه الدَّولة وشأنهم!» (الديموقراطي؛ 24 يوليو 2022م).
نخشى أن هذا تفصيلٌ على المقاس «الصُّومالي»! فأهل السُّودان، في حقيقة الأمر، ما انفكُّوا يضعون على عاتق الدَّولة كامل المسؤوليَّة عن معاناتهم الحياتيَّة، ويعلنون، ضمناً، رفضهم إعفاءها من واجباتها حيالهم! لجان المقاومة، مثلاً، بمدينة الرُّوصيرص، في ولاية النِّيل الأزرق التي شهدت، مؤخَّراً، قتالاً مروِّعاً بين «الهوسا والبرتا» خلَّف عشرات القتلى والجَّرحى، وأسفر عن حرق ونهب الأسواق، أعلنوا عن احتجاجهم على أن المنطقة تعاني من نقص حادٍّ في أدوية الطوارئ، والكادر الطبي، والمواد الغذائيَّة، وعدم تأمين المستشفى، مِمَّا يتسبَّب في انسحاب كوادرها بشكل متكرِّر. ومعلوم أن تلك كلها من مسؤوليَّات الدَّولة التي، بدونها، سنتحوَّل، بالفعل، إلى نموذج من النَّمط «الصُّومالي». كما حذرت هذه اللجان، في نفس الوقت، مِن ظهور مَن أسمتهم «أصحاب البدل، وتجار الأزمات» الذين يدَّعون استقبال القوافل الخيريَّة لدعم المتضرِّرين، بينما هم، في غياب الدَّولة، يكدِّسون ما تأتي به من خير في مخازنهم وجيوبهم!
الأربعاء
لئن كانت بعض الحركات المسلَّحة، موقِّعة أو غير موقِّعة على اتِّفاق سلام جوبا المعيب، قد استُثنيت من إجراءات الاستبعاد الانقلابيَّة من الحكم، وأعطيت حقَّ المشاركة في «سلطة الأمر الواقع» الحاكمة عبر مجلسي السَّيادة والوزراء الانقلابيَّين، فما المدعاة للدَّهشة إزاء المطالبة «الرَّسميَّة» التي تقدَّمت بها هذه الحركات، بكلِّ عين حمراء، لتسليمها «شحنة مخدِّرات» تحوي 292,000 حبَّة ترامادول عيار 225 مل، كانت ضبطتها سلطات الجَّمارك قبل زهاء العام، حيث تزعم هذه الحركات أن الشُّحنة تخصُّها، وأنَّها مرسلة إليها من خارج البلاد «لأغراض طبيَّة!»، علماً بأن أقصى عيار مسموح باستيراده لهذه الأغراض، وبعد استصدار التَّرخيص بذلك، لا يتجاوز 25 مل! ومع ذلك فإن نفس «سلطة الأمر الواقع» الانقلابيَّة ظلَّت عاجزة، طوال الفترة الماضية، عن تحريك أبسط إجراء قانوني في مواجهة الحركات المشار إليها، ومسؤوليها، بينما تفلح، فقط، في مطاردة المواكب السِّلميَّة، وترصُّد شباب الثُّوَّار، والقبض عليهم، للزجِّ بهم في حراساتها الشَّائهة، ريثما تلفِّق لهم التُّهم أمام القضاء؟!
الخميس
في منتصف مايو 2008م هزَّتني بقوَّة بضع عبارات سمعتهنَّ، من خلال التلفزيون، ضمن خطبة كان يلقيها سلفا كير ميارديت، النَّائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة، وقتها، ورئيس الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان، في افتتاح المؤتمر الثَّاني للحركة بجوبا، فجعلتهنَّ موضوعاً لبعض «الرُّوزنامة» يومها؛ بضع عبارات صاعقات من عيار يجعل شَعْرَ أصلب الرءوس عُتوَّاً يقفُّ، وأشدَّ الأبدان استرخاءً يقشعرُّ، وأعمق الضمائر سهواً تستوفز، وأكثر العقول لهواً تستيقظ، حيث حذَّر سلفا من أنَّ «وثيقة الحقوق»، تاج «دستور 2005م الانتقالي»، المستند إلى «اتِّفاقيَّة السَّلام CPA» المبرمة بضاحية «نيفاشا» الكينيَّة، «ستكون قوقعة فارغة في ظلِّ سيادة القوانين المقيِّدة للحريَّات»! وهاجم، بضراوة، «أجهزة تنفيذ القانون التي كانت ما تزال تعمل بقوانين ما قبل اتفاقيَّة السَّلام، والجِّهاز القضائي المتباطئ في تحقيق الانسجام بين التَّشريعات وبين الدُّستور الذي هو القانون الأساسي للبلاد»! وفي السِّياق أكَّد سلفا أن الحركة ترفض الاعتقال التعسُّفي، والرَّقابة على الصُّحف، ومنع التجمُّعات المشروعة، وتضييق الخناق على السِّياسيين»؛ وندَّد بـ «الوزراء والمسؤولين الذين يقفون وراء تلك الممارسات»، واصفاً إيَّاهم بأنَّهم «خارجون على سلطة الدَّولة»، وخيَّرهم بين أحد أمرين، «فإمَّا أن ينسجموا مع الإرادة الوطنيَّة، أو يرحلوا عن مواقعهم»!
جرت، بعد ذلك، مياه كثيرة تحت جسور السِّياسة في بلادنا. لكن، ولمَّا لم تكن قد تبقَّت سوى أشهر قلائل على استفتاء الجَّنوبيِّين بين الوحدة والانفصال، فإنه لم يعُد ثمَّة الكثير، وقتها، لإِنقاذه، فانتهى الأمر، كما كان متوقَّعاً، بالتَّصويت لصالح الانفصال. وهكذا أسَّس الجَّنوب دولة مستقلَّة، وذهبت الحركة لتحكم الدَّولة الجَّديدة التي رحَّب بها الوطنيُّون الدِّيموقراطيُّون الشَّماليُّون لأنَّها خيار الجَّنوبيِّين، علَّهم ينعمون فيها بما لم يُتح لهم من حريَّات وحقوق تحت سلطة الاسلامويِّين في دولة الشَّمال!
لكن، وبالرُّغم من أن رياح الجَّنوب الطَّيِّبة لم تكن تحمل معها، دائماً، أطيَّب البُشريات، إلا أن ما جرى خلال الأيَّام الماضية، فاق كلَّ سوء متوقَّع، وتجاوز كلَّ شؤم محتمل! فحركة شعب جنوب السُّودان المسلحة المعارضة «المتمرِّدة» في دولة الجَّنوب، بقيادة الجَّنرال ستيفن بواي، أصدرت بياناً أعلنت فيه أن حاكم ولاية الوحدة قام بإعدام ثلاثة من ضبَّاط الحركة، هم اللواء نيون قرنق كول، واللواء بور روب كوال، والعميد قلواك ماجيك ليي، في الخامسة من صباح الاثنين 8 أغسطس الجَّاري، وذلك بدون محاكمات، أي أعدمهم خارج القضاء، وذلك بعد أن سلمتهم له قوَّات «الدَّعم السَّريع» السُّودانيَّة!
أدانت الحركة هذه العمليَّة بوصفها «غير قانونيَّة، وغير انسانيَّة»، كما أدانت «عمليَّة التَّسليم» نفسها من جانب القوَّات السُّودانيَّة التي اعتقلتهم في منطقة الفولة بولاية غرب كردفان، والتي كانوا قد اتَّجهوا إليها لزيارة بعض ذويهم، ولاستجلاب أدوية لعلاج جنودهم المصابين في القتال، ووصفت هذا التَّسليم، كذلك، بالمخالفة للقانون الدَّولي، مطالبة الأمم المتَّحدة، ومنظَّمات حقوق الانسان العالميَّة، بالتَّحقيق في، وإدانة هذا الحادث.
أتمنى ألا تواصل حكومة جوبا، وقوَّات «الدَّعم السَّريع» السُّودانيَّة، صمتهما، طويلاً، إزاء هذا الاتِّهام الصَّارخ؛ وأن تُصدِرا، عاجلاً، ما يساعد على إجلاء الحقائق كاملة حول ملابسات القبض والتَّسليم، وما إن كان الإعدام قد تمَّ بناءً على حكم صادر عن محاكمة صحيحة، فبدون ذلك سوف يعصف بالنُّفوس، جنوباً وشمالاً، بلبال بلا آخر!
تبقَّى أن نذكر أنه، لدى نشرنا النُّسخة الأولى من هذه «الرُّوزنامة»، كالعادة، بصَّحيفة «الدِّيموقراطي» الاليكترونيَّة، بالاثنين 15 أغسطس 2022م، أوردنا، نقلاً عن رسالة «الجَّنوب» التي يحرِّرها المثنَّى عبد القادر، على صفحة (8) من صحيفة «الانتباهة» الورقيَّة، بتاريخ الثُّلاثاء 9 أغسطس 2022م، أن الحاكم نفَّذ إعدام هؤلاء الضُّبَّاط «بإشعال النار فيهم بعد تقييدهم داخل حظيرة أبقار». لكن، وحيث تأكَّد لنا، لاحقاً، أن هذه المعلومة غير صحيحة، فإنَّنا نعبِّر عن عميق أسفنا، وصادق اعتذارنا.
الجُّمعة
دخل اسم السُّودان مضابط المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة ICC، باعتبار إحالة مجلس الأمن الدَّولي قضيَّة دارفور إليها، بموجب القرار رقم/1593 لعام 2005م. وكانت تلك هي المرَّة الأولى التي يستخدم فيها المجلس حقَّه في الإحالة Referral بموجب المادَّة/13/ب من «نظام روما لسنة 1998م Rome Statute»، مقروءة في ضوء «الفصل السَّابع» من ميثاق المنظَّمة الدَّوليَّة. ومن ضمن التزامات الاحالة تقديم المدَّعي العام الدَّولي تقريراً نصف سنوي لمجلس الأمن عن سير القضيَّة.
وبالاثنين17 يناير 2022م قدَّم المدَّعي العام الدَّولي الجديد كريم خان الذي خلف بنسودا، ومن قبلها أوكامبو، تقريره الأوَّل، وإن كان الرَّابع والثَّلاثين في ترتيب التَّقارير التي قُدِّمت للمجلس. وقد جاء فيه أنه «بات من المهم، أكثر من أيِّ وقت مضى، أن يعمل مكتبه والسُّلطات السُّودانيَّة في شراكة بغية إحراز تقدُّم في القضيَّة»، مشيراً إلى أنه «ما من خيار آخر» في هذا الشَّأن. وأكَّد أن «عدم تحقيق العدالة لضحايا دارفور سيستمر في التَّأثير على جهود السُّودان نحو تحقيق الاستقرار وسيادة القانون، إلى أن تكون هناك مساءلة ذات مغزى». وكان من أهمِّ وأخطر ما أورد خان في تقريره أن الأحداث التي شهدها السُّودان في 25 أكتوبر 2021م، وما ترتَّب عليها من انعدام للأمن والاستقرار في البلاد، «شكَّلت انتكاسة تطرح تحدِّيات إضافيَّة لعملنا في السُّودان»، حيث أن «العديد من المحاورين والمنسِّقين الرَّئيسين للمكتب من الجَّانب السُّوداني لم يعودوا يشغلون مناصبهم في حكومة البلاد كما في السَّابق». ثمَّ أردف قائلاً إن مكتبه «اضطر لتعليق نشر فريقه في السُّودان، حسبما كان مقرَّراً، وإيقاف جميع أنشطة التَّحقيق على الفور». وجدَّد خان دعوته إلى حكومة السُّودان ـ قاصداً، بطبيعة الحال، «سلطة الأمر الواقع» الحاليَّة برئاسة البرهان ــ كي تتكفَّل بضمان وصول مكتبه بأمان إلى السُّودان، بما في ذلك وصوله إلى الوثائق، ومسرح الجَّريمة، والشُّهود، مشدِّدا على ضرورة الرَّدِّ على طلبات المساعدة العديدة التي أرسلها مكتبه هذا «دون مزيد من التأخير»!
ورحَّب خان بالتزام جميع المسؤولين الحكوميِّين الذين كان قد التقى بهم خلال زيارته الأولى إلى السُّودان، في أغسطس 2021م، بالتَّعاون مع المحكمة، مشيراً إلى أن هذا الالتزام «تجلَّى في التَّوقيع على مذكرة التَّفاهم التي وسَّعت، لأوَّل مرَّة، تعاون حكومة السُّودان مع مكتبي ليشمل جميع المشتبه بهم الذين أصدرت المحكمة بحقِّهم أوامر قبض».
السَّبت
سياسات السُّلطة الانقلابية تذكِّر بالنكتة المصريَّة التي راجت على أيَّام السَّادات، ومفادها، في وصف سياساته، أنه كسائق عربة يؤشِّر شمالاً ويلفُّ يميناً!
العنصريَّة والجِّهويَّة سياسة. واعتزام العودة للثَّكنات سياسة. لكن «سلطة الأمر الواقع» التي تمسك بمقود سيَّارة الانقلاب ما تنفكُّ تؤشِّر شمالاً، بإعلانها رفض ظَّواهر العنصريَّة والجِّهويَّة، بينما تلفُّ يميناً بممارستها، بل وتكريسها! ونفس الأمر ينطبق على إعلان «مضمضة الشِّفاه lip service» عن اعتزام العودة للثَّكنات! وقد قال تجمُّع المهنيِّين في بيان له إنه رَصَدَ القرارات والتَّصريحات الصَّادرة عن قادة السُّلطة الانقلابيَّة، بدايةً من البرهان، ونائبه حميدتي، وبعض قادة الحركات المسلَّحة، فوجدها تذهب، جميعها، إلى حشد القوَّات، والخطابات، باتِّجاه تكريس المضامين المعاكسة لكلِّ ما تعلن عنه من سياسات، ذرَّاً للرَّماد في العيون!
فأمَّا بالنِّسبة للعنصريَّة والجِّهويَّة: فقد طالب البرهان مواطني ولاية نهر النِّيل التي ينتمي إليها «بالعمل على قيادة الآخرين في البلاد»، ويعني المواطنين الأغيار بخلاف أهل الولاية، والذين وصفهم بأنَّهم «لا يشبهوننا»! مشيراً، إشارة ذات مغزى واضح، إلى «أن غالبية عناصر الجَّيش وأجهزة الأمن هم من أبناء الولاية»! لقد حقَّ لتجمُّع المهنيِّين السُّودانيِّين اعتبار التَّصريحات العنصريَّة والجِّهويَّة لقادة السُّلطة الانقلابيَّة، بمثابة خطر كبير، ومؤشر لنتائج غير محمودة العواقب على البلاد.
وأمَّا بالنسبة لاعتزام العودة للثَّكنات: فإن البرهان وحميدتي يقرنانها بالزُّهد في ممارسة السُّلطة السِّياسيَّة، لكن ما قيمة إحالة كبار الضُّباط إلى التَّقاعد، حتَّى بافتراض الجِّدِّيَّة في ذلك، طالما أن السُّلطة الانقلابيَّة بدأت تبوِّئهم مناصب رفيعة في الدَّولة؟! فقد عيَّن البرهان 5 جنرالات في مناصب سفراء، في سياق سعيه الحثيث للتَّمدُّد، وبسط السَّيطرة على الجهاز التَّنفيذي بالكامل، وهو ما رفضه تجمُّع المهنيِّين، عن حق، حيث لا مجال للمكابرة في أن هذه التَّعيينات تخالف المعلن من سياسات العودة للثَّكنات، واعتزام ترك السُّلطة للمدنيِّين، والرغبة في بناء جيش مهني ينأى عن السِّياسة!
الأحد
شهد مسجد يمنيٌّ، الشَّهرالماضي، أقصر خطبة جمعة في تاريخ الإسلام. إذ لم يتجاوز طولها 14 كلمة فقط. الخطبة ألقاها الإمام الخطيب العشريني يوسف الحميقاني، ووجَّهها إلى الحوثيِّين، قائلاً لهم: «أيَّها الحوثيُّون، أنتم دخلتم البيضاء بطريقتكم، فوالله لن تخرجوا منها إلا بطريقتنا، وأقم الصَّلاة».
أعادت هذه الواقعة إلى ذاكرتي شبيهة لها حدثت عام 1986م، يوم احتفلنا بتدشين دار «اتِّحاد الكتَّاب السُّودانيِّين» بمنطقة المقرن، جنوب قاعة الصَّداقة بالخرطوم، في حضور الصَّادق المهدي، رئيس الوزراء المنتخب يومها، وعبد الرحمن سوار الدهب، رئيس المجلس العسكري الانتقالي المنتهية ولايته. في البداية صعد إلى المنبر زميلنا البشير سهل جمعة، مساعد الأمين العام لشؤون الدَّار والعضويَّة، ليبتدر الحفل بآيٍ من الذِّكر الحكيم. ففاجأنا بتلاوته الآية الأولى من سورة البقرة «الم»، ثم ما لبث أن ختم بـ «آمنت بالله صدق الله العظيم». سرت بين الحضور همهمة، وندت عن الإمام الصَّادق ضحكة مكتومة، فتوجَّست أن يكون ثمَّة خطأ ما أو تجاوز! ولمَّا كان مجلسي إلى جواره سألته عن ذلك، لكنه طمأنني بأن كلَّ ما في الأمر أنه، فقط، غير معتاد، فحمدتُ الله.
***
kgizouli@gmail.com