بينما ترفرف أعلام الوحدات العسكرية هذه الأيام احتفالاً وابتهاجاً بالعيد الثامن بعد الستين للقوات المسلحة، يواجه المواطن حياة بئيسة وشظف في العيش ورهق لا مثيل له في سبيل كسب الرزق، وفي نفس الوقت يزداد الجيش ثراءًا بامتلاكه لناصية التصنيعين الحربي والمدني، وريادته لتجارة اللحوم والسلع الاستراتيجية الأخرى وتصديرها عبر العملاق المسمى بمنظومة الصناعات الدفاعية، المنظومة غير الخاضعة لولاية وزارة المالية منذ سنوات حكم الدكتاتور المخلوع، ويفصل بين هذا العملاق الجبّار والجهات الرقابية والمحاسبية خط أحمر عريض وطويل، ويا ويل من يحاول الاقتراب منه أو تصويره، لقد جرّبت الوصول إلى تخومه لجنة إزالة التمكين من قبل، ولكن كانت تلك التجربة قاصمة لظهرها ورافعة للإنقلاب، هذا العملاق المدبج ظهره بالنياشين والأنواط أصبح بُعبعاً وكابُوساً مُرعباً ومُزعجاً لمرقد دواوين المحاسبة والمراجعة القانونية، لا أحد يجروء على المطالبة بوضعه تحت مجهر الفحص، وتقدر الأموال السائلة منها والثابتة والدائرة حول فلكه بمليارات الدولارات، ومحمد أحمد لا يجد الدواء والكساء والحساء، هكذا تدور عجلة أموال الدولة داخل المنظومة الاقتصادية الفارزة لعيشها، والمنفصلة عن الدورة المالية الحكومية المنظورة والمشاهدة لدى المحاسبين والمراجعين ووزراء المالية المتعاقبين، فبهذه الطريقة الغامضة التي ازدادت غموضاً بعد الإنقلاب تدار الشئون المالية والإدارية.
أصبح لدى الجيش أذرع جديدة لم تفقد حظها من الاستئثار بثروات البلاد القومية من ذهب وغيره، فقوات الدعم السريع الذراع الأطول للقوات المسلحة هي الأخرى نشطت في مجال التنقيب عن الذهب والمتاجرة فيه بالتصدير للدول العظمى، كذلك لم تخضع ميزانياتها للمراجعة والمحاسبة من الأجهزة الرقابية والمحاسبية وشُعب التدقيق، على الرغم من طفح كيل ثراءها عبر وسائل الاعلام الغربية وآخرها تقرير القناة الأمريكية، في بلاد السودان صار الحصول على الأموال واستخراج الثروات من باطن الأرض وتسويقها وبيعها رهين بأن يكون لك صلة قربى بأحدى الأذرع التابعة للجيش، وعندما استوعب أمراء الحرب حقيقة الأمر استعجلوا الدخول إلى الوليمة عبر بوابة جوبا، فالمتخصصون في جني الأموال الملوث دولارها بدماء الأبرياء المتساقطين في ميادين الحروب يعرفون من أين تؤكل الكتوف، والآن وبعد تعقيد المشهد السياسي سوف تشاهدون المزيد من الجيوش الصديقة للقوات المسلحة، الحافرة للأرض والمنقبة عن المعدن الأصفر الوهّاج الذي جعل القلوب تذهب والعقول تذهل، فالبلاد مقبلة على كرنفالات وأعلام مرفوعة وأموال مدفوعة ومواطنين يزدادون فقراً على فقر، طالما أن حماة الوطن يكتنزون المال والذهب والفضة والخيل المسومة والقناطير المقنطرة من اللحوم المسلوخة، بينما تفور وتمور إمعاء محمد أحمد وتتضور جوعاً واشتهاءً للحم طير بلاده الشهي.
لا أحد يحزن في يوم احتفال بلاده بمولد جيشها الأسمر قاهر الجيوش وحامي حمى الأوطان، ولن تجد مواطناً سودانياً واحداً قد رمى بطوبة قواته المسلحة على الأرض إلّا بعد أن خذلته وهو يحتمي بها أمام بوابتها التي كانت مشرعة للضعيف والمسكين والمقهور، والسودانيون كعادتهم منذ عصور بعانخي وتراهقا وعجبنا وتيراب يعشقون الجندية، ويهرولون نحو حمل السلاح من أجل رفع الظلم عن ظهر المستعبد وتحريره، لكن الآن يمر مفهوم الجندية بامتحان عسير خاصة وأن مساحات ومسافات الثقة بين الجندي والمواطن أخذت في التباعد، ولن يُجسّر هذا الفارق الكبير إلّا تحقيق مبدأ بسيط جداً غير صعيب المفهوم، وهو أن يترك الجندي مهنة التجارة، وقتها سيتحقق قول الشاعر والمغني الوطني (رجال الجيش يا سعاد حفظوا حدود البلاد)، فعندما يمتهن كبار القادة العسكريين مهنة التداول السلعي يتحولون إلى أرواح شريرة جشعة لا تعرف حفظاً لحدود الوطن، فلو أراد القائد العام للقوات المسلحة احتفالاً يليق به وبجيشه العرمرم ما عليه إلّا الخروج النهائي من حلبة المصارعة السياسية والتجارية، وإعطاء الخبز لبخبّازه، بغير ذلك ستتواصل حلقات مسلسل (السيف عند جبانه والمال عند بخيله)، هذه المعادلة المعكوسة التي يصر قادة الأجهزة العسكرية والأمنية على امتطاء سنام بعيرها، فمتى يشهد محمد أحمد احتفالاً مهيباً لهذه المؤسسة التي يجب أن تكون مهابة؟.
اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
15 اغسطس 2022