الصيف والفردوس (3)

حدثتها عن سلطة الباذنجان والفول المدمس و زيت السمسم وفوائده، لم يمر وقت طويل حتى جلسنا الى المائدة، أكلنا بشغف وتوارى موضوع السيارة و بيعها خلف أستار فضول طارئ، واتخذ الحديث بعداً تآنسياً شفيفاً، سألتني عن أشياء تخصني، وسألتها عن أشياء تخصها، ولم يتحرج كلانا عن البوح بمكنوناته إلى الآخر، حدثتني عن (جيمي) صديقها الذي يعيش في (منيسوتا)، وحدثتها عن خطيبتي التي أنوي الاقتران بها و التي تنتظر عودتي بشوق أكيد، كنا سادتي مثل طائرين منهكين آتيين من جهتين متضادتين، حطا على غصن واحد في شجرة وارفة في خلاء عريض، في لحظة ملتاثة من الزمان.
أعدتها مع اقتراب حلول الظلمة إلى المكان الذي التقينا عنده، قبلتني على خدي في امتنان عميق، أحسست بمدى العاطفة الإنسانية التي حملتها تلك القبلة، عدت إلى سجن شقتي في اقل من ساعة، فوجدتها وقد تعاظمت الوحشة فيها، فكأنما كنت أعيش حال إنكار لها، حتى فجرتها تلك الزيارة، ذهبت الآنسة (سميث) سادتي ولكنها أخذت معها كل قدرتي على الاستئناس بوحدتي و السكون.
لم تمض أيام حتى هاتفتني بصوت يصدح بمرح لا يعاوره ارتجال، تحدثنا طويلاً هذه المرة، وشجعتني على الاتصال بها مذكرة أياي بأننا أصدقاء، لم تأت على ذكر السيارة في تلك المحادثة، ولا بعد ذلك أبداً. تقابلنا مراراً، ذهبنا معاً لمشاهدة (دينزيل واشنطون) يؤدي في غاية البراعة دور جندي في قوات السود الذين حاربوا من أجل الحرية في الحرب الأهلية، و تمتعنا بسينمائيات (سبايك لي)، اشترينا في تجوالنا أكواب نشارة الثلج الملونة في الصيف، و تعلمت مني مزيداً من كلمات لغتي، و حين نجلس في السيارة، كانت تمرر يدها في مؤخرة رأسي و تسألني أن كنت استخدم دهانا معيناً لأكسابه هذه التموجات، و تبدي اعجابها بخصلاته الصغيرة المكورة، فأجيبها بالنفي، فتعود تعدل من شعرها الذي تظهر فيه آثار المعالجات المتعددة، بيد أن صفاء وجهها المستدير كان يعجبني ، و لون التين البري على جلدها، ثم ساقيها المعتدلين اللتان تنتهيان بردفين ثقيلين، يتوَجه خصر ضيق، و فوق كل ذلك ملامساتها التي تبدو بريئة لي، حتى كدت أن أموء كقطة و في أحايين أخر تقطر العرق من لساني كجرو صغير.
أنقضى عام على علاقتنا يا سادتي، تعلمت فيه أشياء، وغابت عني فيه اشياء، تماماً كما حكى أحد كتابنا المشهورين مرة، عن رحلة تقترب في سماتها من رحلتي، كنت أهب لمساعدتها كلما طلبت مني ذلك، و كنت استشيرها في أمور كثيرة تتعلق بالحياة في هذه البلاد ، فرحها وأحزانها فتشيرني، أخذتني لملاعبتها (الغولف) و للنزهة على ظهور الدراجات، ساعدتني على ترتيب شقتي، و علقنا نسخا رخيصة من لوحات (ويليم توليفر) و (بونشو براون) و (جيمس دنمارك)، على جدران شقتي، جنباً الى جنب صور أفراد أسرتي في بلادنا البعيدة.
سوف اتوقف عن الكلام المباح و غير المباح الى حين، وسأطلب كوباً من الماء، وسوف أنظر ناحية محاميتي العزيزة (كارلوتا)، فكأنما استشف رأيها وأستدر أعجابها بمرافعتي، ومن ثمّ أطالبها برد نصف قيمة الأجر، ابتسمت في وجهي بميكانيكية، ونصبت ابهامها في فضاء الغرفة، ثم ما لبثت أن اسلمت قيادها لسلطان الكرى العنيد، وغابت عن الوعي مرة أخرى. لايهم، ستأخذ المرأة التمثال التي تجلس في مواجهتي في الناحية اليسرى لمنصة القضاء، راحة قصيرة من كتابة الحيثيات و الوقائع، و قد تلعنني و القاضى و الحضور في سرها، وقد يكون موعد التقاطها لأحد من أطفالها قد حان، وقد تكون منفصلة عن زوج سكير كريه، أمرأة موجودة لا يحس بوجودها أحد، تعمل في صمت و نزاهة و حرفية عالية، يندلق شريط الورق الذي تكتب عليه أمامها فلا تهتم بجمعه حتي يتكوم أمامها مثل لغزعصي التراكيب، قد تكون أحدى زبائني في المحل، و لكنها تمارس الخفاء في حياتها الخاصة مثلما تفعل الآن فلا يعد أحد يذكرها او يحقد عليها، مثلما يفعل الناس مع القضاة و رجال الشرطة.
سأنظر المدعي العام، هذا الكلب الذي ظل يؤجل في قضيتي حتى أنهك أعصابي، سأنظره مباشرة في عينيه، أوده أن يعلم، كم أنا نزيه وأنيق ومتحضر، عكس ما كان يتخيل حينما قرأ اسمي الغريب مكتوباً على صحائفه المجرمة، سيعلم انني انسان له جذور وثقافة وسأتعمد الحديث بلغتي الأم مرة أو مرتين دون داعٍ، وسأتحداه في معرفة اللغة التي أتحدثها، حتى يدرك أهميتي ويدرك أنني لست مجرد لون أسود جديد يلقي به في غيابة السجن مضيفاً الى النزلاء رفيقاً جديداً، ورقم جديد يفتح له طاقة العون الفيدرالي الذي يتقاضى منه راتبه، أو يضيف الى تاريخه الجنائي مجداً جديداً يحدث به زوجته أو عشيقته، ألم أقل لكم أنني تعلمت الكثير؟
سيدي القاضي والسادة المحلفين، أصبحت (ماري) جزءاً من حياتي، وأصبحت جزءاً من حياتها، تأتي الى بالدواء أذا أصابني المرض، وأذهب لها بالغذاء أذا تأخرت في عملها، عرفتها على أسماء أخوتي وأخواتي، وأسمعتها أغنيات من بلادنا مسجلة على شرائط قديمة، كانت تضحك حين تسمع في اثناء الموسيقى اصوات غريبة لا علاقة لها بالأغنيات، مثل صوت خالي وهو يحدث جمعاً من أصدقائه، ثم وهويعلن عن قدوم صينية الغداء، وهو يحلف بالطلاق، فيتملكها العجب من قداسة الطلاق التي تستدعي الحلف به.
يتبع…..
اللوحة للفنان الأسود: جيمس دنمارك