أستمعت معها الى عذابات (هاولينغ وولف)، وبلوز دلتا الميسيسيبي، كنت أغرق في حزن عميق عميق، تأصل عندما استمعت الى (الأثنين العاصف)، فكأنما كانت الأغنية تنبع من جذر آمالي المحبطة. كنا نفترق سعداء مثلما نلتقي، كانت سعادتي نابعة من كوني أعيش على هامش اشتهائي لأمرأة دون خوف من مغبة الإلتزام بالإقتران بها، كنا نفعل اشياءنا دون قيد أو شرط الفعل الجسدي، تحادثنا و نحن راقدون في فراش واحد جنباً الى جنب، لساعات و ساعات، في عز حمأ الصيف و فردوسه، ولكنها لم تتجاوز حدود ملامسة شعر راسي برأفة أم، دافعت عن أفريقيتي بكل ما أملك كل ساعة اشارت فيها الى أنفي المستقيم، لأسمع منها نفس التعليق (ولكن شعر الأفريقيين اكثر خشونة من ذلك، وهم لا يتحدثون لغتك)، تمسك بكفي عنوة وتجرأصابعي على شعرها المستعار كأنما تؤكد لى ما ذهبت اليه، وتقول هامسة باعياء: كم أكره شعري، تعزي نفسها وهى تضحك عالياً، فنضحك معاً من يأس يتخفى تحت مائة أسم.
إعتاد زملاءها من العسكريين على رؤيتنا معاً، لم يتضجر منهم أحد برفقتنا، بادلوني التحايا وهموا عائدين لتوهم من تفجيرمكان ما في بلد ما، كانوا في أعلى قمم الحرفية المهنية العسكرية، لا يسألون عن الغرض من طلعاتهم الجوية التدميرية، ولا عن جدواها، يفعلون ما يجب عليهم فعله في نوباتهم، تماماً مثلما أفعل أنا في المتجر، نعمل جميعنا لنتسلم رواتبنا لقاء أداء واجباتنا كل نهاية اسبوعين، وفي المساء يحق لنا أن نعود منهكين الى أحضان همومنا الصغيرة الخاصة. كنت أقترب من انسانيتهم وبساطتهم، كلما جلست اليهم أحادثهم في لحظات صفاء نادرة، تناقص غضبي الموروث عليهم حين وجدتهم اناساً عاديين تطحنهم مطالب الحياة اليومية، أناس لهم آمالهم وأحلامهم، وأسرهم وأصدقاؤهم وأغنياتهم المفضلة. تناقص غضبي الموروث حتى تلاشى فلم أدر ماذا افعل بالبقية الباقية منه، تعودنا نحن في بلادنا أن نغضب، وتعودنا ان نصب جام غضبنا على شيء ما، يجوز لنا ان نتهم شخصاً معيناً محدداً بالسوء الذي حاق بنا، فنتهمه بكل الخيبات التي واجهتنا والتي سوف تواجهنا، فأن لم نجد حبلاً نعلق عليه ملابسنا المتسخة، علقناها على ظهره، وأفشينا بقية حنقنا في بعضنا البعض، ومن ثمّ الشمس والتراب والفضاء الذي يحتوينا، أختلطت الدروب علينا سيدي القاضي، فكل القناعات التي رضعناها منذ طفولتنا، ظللها الشك، ذاب الطلاء عنها بمجرد أن لامس الماء سطحها. أعود بعد هذا الأستطراد سادتي الى قصتي والآنسة (سميث)، ظلت (ماري) تسافر الى لقاء صديقها في الجنوب كلما منحتها القاعدة الجوية أجازة قصيرة، وكل الأجازات الكبيرة بالقطع، كان (جيمي) رجل يعيش ويتنفس بيننا عبر حكاياتها عنه، حتى تصورت أنني سأتعرف عليه من بين عشرات من الرجال أذا قدر لي ذلك الظرف، كان لي منها مالي، و كان له ما له، حتى أتى اليوم الذي عادت فيها من رحلة للقائه، سمعت فيه صوتها على الطرف الآخر من الهاتف، تعلوه نبرة حزن لا تخطئها الأذن، أحسست بأصداء الخيبة في نبرة صوتها، فارق صوتها أشراقه وعذوبته، فعزيت ذلك الى الإرهاق الناتج عن السفر الطويل، واشتداد حرارة الطقس، بيد انها نفت مزاعمي وأحجمت عن ذكر السبب، فلم أشأ أزعاجها، واكتفيت معها بثرثرة لا معنى لها، وفجأة أنخرطت (ماري) في بكاء حار، لم أملك معه سوى الصمت، و من خلال عبراتها ومن شتات كلمات هنا وهناك علمت منها أن (جيمي) أختار رفقة أمرأة أخرى، إنتظرت في صبر حتي زال عنها الغضب أو كاد، وبهدوء شديد سألتها ان كان بأمكاني مساعدتها في شيء، أجابت بسخرية بالغة، وما الذي يمكنك فعله، إجباره على حبي مرة أخرى؟؟؟، لم يدر بعقلي انني غبي رغما عن سؤالها الذي بدا منطقياً، ولكنها شكرت لى عطفي على كل حال، انتهت المحادثة، وتمنيت لها ليلة هادئة، الا انها و لدهشتي عاودت الأتصال بي مرة أخرى، لم أكن أتوقع الأتصال السريع وقبل ان أن أفيق من دهشتي، سارعت بالقول (وما المانع بحق الجحيم، يمكنك مساعدتي)، واقترحت على الذهاب الى مطعم يقع في منتصف المسافة بين منزلي و منزلها، وافقت و مضيت في اعداد نفسي للخروج بعد ان أعددت نفسي للخلود الى سكون شقتي المقيت.
Delta Blues by William Tolliver