أما وقد عاد النظام (البائد) بغضه وغضيضه وموائده المستديرة والدائرة حول بركات القباب، وشرطة نظامه العام – الجهاز الباطش بالنساء والضعفاء والفقراء والمساكين المقهورين، بذا يكون قد تم تصفير عداد الأمل في استكمال مشروع الثورة عبر أجهزة الحكم الحالية التي عاد إليها الداء القديم اللعين، المتمظهر في الذين نكّلوا بأبناء وبنات الشعب الكريم، إنّ ربط الأحزمة وشدّها والإقلاع بطائرة الهمّة الثورية صار أمراً ضرورياً وواجباً ثورياً ملحاً في هذا الخضم الممعن في الردة والانتكاس، فلم يكن سيل الدماء الجارفة والنازفة من أعناق الشهداء بذلك الهوان الذي يجعل الثائرون من أجل الكرامة والحرية والسلام والعدالة، يتراجعون قيد أنملة لمجرد أن كيان مركزية الحرية والتغيير قد ضيّع الأمانة، هذا الكيان السياسي الذي أسهم في وأد المنجز الثوري بالتلكوء والتماطل والتباطوء والتردد في حسم الملفات الثلاثة الأهم – محاكمة المجرمين واسترداد الثروات المنهوبة وتحقيق السلام، هكذا حاول هذا الكيان الهزيل والضعيف أن ينتحر وينحر معه مشروع الثورة الشعبية التلقائية العظيمة، التي وصفها أيقونة النضال العالمي تشي جيفارا فقال:(الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن)، مع عودة الحرس القديم للجماعة (البائدة) ومدّه لساقيه دون حسيب أو رقيب، يصول ويجول ويقيم المؤتمرات والندوات والموائد والولائم، من حر مال محمد أحمد المكتوي بلظى الجوع والفقر والمرض.
الثورة الديسمبرية المجيدة غربال يفرز الغث من السمين ويفصل بين الزبد ومنفعة الناس، فأنصاف الثوريين الهابطين ناعماً والساعين لكسر شوكة قانون اللاءات الثلاث، سيكون مصيرهم الدرك الأسفل من قاع بئر الخذلان، ولن يجنوا لا بلح الشام ولا عنب اليمن مقابل ما يقدمونه من إراقة لماء الوجوه، فالعصبة (البائدة) لن تمنحهم مثقال حبة من خردل سلطة الشعب المختطفة، التي أهملوا رعايتها عندما كانوا متكئين على أرائكها، فالثائر الحق لا يركن لبهرج الصولجان ولا تضعف نفسه أمام الوعود اللاهثة، فقد غربل غربال الثورة المتسلقين والمدّعين والمكابرين والشركاء السابقين (للبائدين)، ومحّص كل من نعق منافقاً باسم الحرية والعدالة، وكما يقول المثل الشعبي (هذا الأمر ليس كلعب العيال) فهذا التسونامي الكاسح الماسح منذ ديسمبر من قبل أربعة أعوام، ما فتئت زمجرة أصوات أمواجه ترعب الدكتاتور الرعديد، وعلى الديسمبريين أن لا يدعوا المجال لشركاء الدم لأن يلتقطوا قفاز الوكالة الثورية، وأن ينضووا تحت ألوية القوى السياسية الجديدة والحديثة المتوافقة مع نبض حراكهم الثوري الجميل، فمن بعد تجربة الانتقال المختومة بانقلاب الشريك الدموي والغادر، لا مكان لمن اشترك وشارك اليد الملوثة بدم الشهيد، فمن ضيع الأمانة اليوم سيضيعها غداً مهما تقدم بالاعتذار والنقد الذاتي الانتهازي، إذ أنه لا يعقل أن يستأمن المهمل في الاستمساك والعض بالنواجز على حصاد الحراك الممهور بالمهج والأرواح.
الساحة السياسية الآن مكتظة بالانتهازيين والوصوليين والمرتزقة وأمراء الحروب الذين يقول لسان حالهم يا ليت نفسي، لقد اختلط حابل المبادرات الأممية – فولكر والأقليمية – السفير السعودي، بنابل مؤامرات الطاولات المستديرة والمستطيلة والمربعة والمخروطية، والكل رافع عقيرته بالصياح فداءًا للوطن ومن أجل الإصلاح والعبور بباخرة الانتقال إلى بر الأمان، ومن عجائب الأمور ومدهشات الدهور تكرار الوجوه التي تيبست وعشعش فيها الصوف ورسم عليها الدهر خطوطه الكونتوريه المتعرجة، إنّهم رجال كل الحكومات، لا يمرضون ولا يجوعون ولا يعطشون ولا يموتون، ترى في وجوههم نضرة أموال السحت، ألا يستحي هؤلاء الرجال البلهاء؟، ماذا قدموا للوطن الذي يتباكون حول مرقده وهو ملقي سقيم وقد مرضوا هم بداء (الكنكشة)، ما هي تلك الذرة التي سوف يكتشفها أصحاب الجلابيب البيضاء والعمائم المزركشة هؤلاء؟، بل ماذا يرتجى من عاطل حذّر الحكماء من مغبة الوثوق به، بل فضّلوا السفيه على هذا العاطل الآكل من فتات جميع الموائد، هل قدر هذه البلاد أن يقودها العاطلون؟، وهل تلك المرة الأولى التي اعتلى رئاسة الوزراء فيها ذلكم الفتى المتخرج حديثاُ في الجامعة، كانت بمثابة نذير الشؤم الذي صاحبها إلى يوم الناس هذا؟، إنّه لقدر لعين أن تلفظ هذه البلاد الخبراء الحقيقيون – حمدوك وابراهيم البدوي – وتحتضن الجهل المقيم – البرهان وحميدتي.
اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com