لا تكمن مشكلة (نداء أهل السودان) فقط في رفض قوى مهمة في الحراك الثوري لها، أو وجود تيارات دينية بل وصوفية تقف بشكل صارم ضد مخرجاتها، لكن مشكلتها الحقيقية كمبادرة تكمن في انزلاقها صوب تعقيدات مزمنة لم تستطع التجربة السابقة اختراقها، واكتفت بالمناورة حولها.
نقصد هنا تحديدا موقف المبادرة المعلن والذي نص على “مواءمة دستور 2005 مع اتفاقية السلام في جوبا”. وهي عبارة فضفاضة قد توحي بمعالجات سهلة في هذا الصدد، وتغمض عينيها عما اكتنف ذلك الدستور والسهام التي انتاشته، فكانت كل ثمرته اللاحقة انفصال الجنوب وتشرذما في الساحة السودانية الحالمة بوطن واحد لكل السودانيين.
يورد دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 في فقرته الأولى تحت عنوان (مصادر التشريع) ما نصه: (تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدرا للتشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان). ثم أتت الفقرة الثانية لتقول: (يكون التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ومعتقداته الدينية التي تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان، مصدرا للتشريعات التي تُسَن على المستوى القومي، وتطبق على جنوب السودان أو ولاياته).
ودون الدخول في التعقيدات الفقهية والقانونية التي شابت الفقرة الأولى فجعلت (الشريعة الإسلامية، والإجماع) على سرج واحد في مصادر التشريع بلا أولوية لأحدهما على الآخر سوى بالتقدم اللفظي، وبلا مراعاة لاستحالة الإجماع في الكثير من الحالات المتعلقة بالتشريع، لكن الواضح أن ذلك الدستور افترض أن شمال السودان يقف (بالإجماع) مع تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، وهو أمر لا تسنده حتى الآن وقائع دامغة، ولا يستفيد من تجربة قوانين سبتمبر الشهيرة، والتي قادت لاحقا لتنامي التيارات المنادية بالدولة العلمانية أو المدنية (على تباينهما قربا وتباعدا) وما يعنيه ذلك من تلاقح مصادر التشريع بما يبعد الحياة السياسية من الاستقطاب الآيدلوجي يمينا أو يسارا.
كذلك اقتصرت تلك التجربة التشريعية على استثناء جنوب السودان من تلك المصادر، وجعلت الفقرة التالية مفتاحا لاسترضائه بما نصت عليه من مصادر متعددة للتشريع تكون (قومية) المنشأ، ما يعني مركزيتها على المستوى الاتحادي للدولة، أي سلب الجنوب أحقية وضع ما يراه من مصادر لتشريعاته، فكانت تلك أول لطمة في انجراف الجنوب لاحقا بما يشبه الإجماع صوب التصويت للانفصال.
من الجلي أن مبادرة أهل السودان سعت لتفادي صداع الاجتهاد، وأرادت أن تقول بأن استثناء الجنوب في دستور 2005 يمكن خلع ردائه الآن وإلباسه جنوب كردفان والنيل الأزرق، وكفى الله المؤمنين القتال.
هذه المحاولة لعلاج الإشكالية الدستورية، تتهدد مجددا وحدة ما تبقى من البلاد، وتغض الطرف عن مآلات ما جرى على صعيد الجنوب، وعن حقيقة أن الهامش لا يتكلم الآن بلغة جهوية كما كان في بدايات انطلاقته، فلغته اليوم قومية في مفرداتها الظاهرة، تتحدث عن كل السودان رغم الصبغة الإقليمية، فنجد أن بعض لافتات الشرق إبان قفل الطريق، نادت بإسقاط حكومة حمدوك ثمنا لإنهاء الإغلاق وقد فعلت، ونجد تفاهمات الحركة الشعبية بقيادة الحلو مع السلطة المركزية ظلت متمترسة حول فصل الدين عن الدولة بشكل مركزي وليس بشكل إقليمي، كما أن عبدالواحد محمد نور، قائد حركة تحرير السودان، صاحب مواقف معروفة في ذات الاتجاه، هذا فضلا عن تيارات صامتة لا نعرف حجمها، وأحزاب سياسية تناوئ أو تتحفظ أو تمارس مواقف رمادية تجاه مصادر التشريع لدستور السودان.
شيء آخر يبدو في غاية الأهمية، وهو أن غالبية أهل السودان لا يخوضون في وحل السياسة إلا بالقدر الذي يمس عظامهم في معاشهم وأكلهم وشربهم، وأن مصادر التشريع ليست محل تطاحن بينهم وبإمكانهم قبول أي صيغ توافقية قابلة لاكتساب الرضا، ما دامت العدالة قائمة بكل قيمها العقيدية والعرفية والإنسانية، وما داموا أحرارا في معتقداتهم يمارسون عباداتهم وشعائرهم بأمان واحترام.
تلك البدهيات البسيطة تغافل عنها دستور 2005، وافترض معركة تجاهلتها الأصوات المنادية بذلك الدستور الذي أفرز تداعيات في الممارسة كان لها ما لها من ثغرات وثقوب.
إن مبادرة أهل السودان كان يمكن أن تحقق هدفا تحتاجه في مرمى معارضيها لو تفادت الإشارة لدستور 2005 ، أو تجاهلته، أو تحدثت عنه بما يشي برؤية حصيفة تعالج سلبياته الصياغية والعملية بحكم التجربة اللاحقة لإقراره، كما نعتقد أن موضوع الدستور ومصادر التشريع سيظل عقبة مستمرة في تحقيق وفاق وطني بالصورة المرجوة، إلا إذا استطاع المشرع السوداني تحقيق صيغ توافقية، أو استطاع إقناع المتبارين في الساحة بتجاوز الفقرة الأولى من مصادر التشريع في دستور 2005، وإبدالها مباشرة بالفقرة الثانية مع بعض التعديل لتصبح (تكون المعتقدات الدينية والتوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده التي تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان، مصدرا للتشريعات التي تُسَن على المستوى القومي، وتطبق على ولايات السودان مع مراعاة ظروف كل ولاية بخصائصها وأعرافها ومعتقداتها وفقا لرؤى مجالسها التشريعية)، رغم أن هناك عقبات متوقعة لقبول هذه الصيغة من بعض الفاعلين في المشهد.
أما الإحالة المعيبة لدستور 2005 والتي تبنتها المائدة المستديرة، فلن تكون سوى تدوير لمشكلة مستعصية وإعاقة مبكرة لمبادرتها لن تتركها تنعم بحياة معافاة، هذا إذا تجاوزنا بقية ما يوجه لها من نقد يضرب جدرانها ويؤثر في تماسك بنيانها.
وتلك هي أكبر الثقوب في مبادرة أهل السودان.