كانت تجربة الإسلاميين في السودان، عبر الحكم العسكري الانقلابي الذي انقلب على الشرعية الديمقراطية للحكومة المنتخبة في عام 1989 (برئاسة الصادق المهدي) بتدبير من الدكتور حسن الترابي، وتنفيذ الجنرال عمر البشير (الذي أطاحت به ثورة شعبية في 19 ديسمبر 2018)، التجربة الأطول عمراً (30 سنة)، وإلى جانب ذلك، توفر لها أيضاً مُنَظِر أيديولوجي – فكري هو الترابي.
لهذا ربما كانت تلك التجربة، بهاتين الصفتين، هي الأكمل التي يمكننا، عبر تدوير زوايا النظر في قراءة مفاعليها وآثارها وما تكشفت عنه مآلاتها، والتأمل في ما بدا ظاهراً للعيان من حصادها المر، والتداعيات شبه الحتمية التي تفرزها انسدادات تلك الأيديولوجيا، متى ما تمّت تجربتها السياسوية في أي بلد، سواء كانت تلك التجربة عبر الانقلابات العسكرية – كما حدث في السودان – أو عبر الانتخاب الديمقراطي – كما حدث في مصر وغزة – الأمر الذي يجعلنا نتساءل في خصوص الحالة السودانية، ماذا لو لم يحكم الإسلاميون السودان؟ هل كانت هناك إمكانية للتطور الديمقراطي النسبي الذي تحقق في السودان إثر حالتين ثوريتين؟ (أكتوبر) 1964 ثم أبريل/ 1985).
ففي سياق تاريخي خاص بالسودان، مختلف نوعاً ما عن سياق البلدان الأخرى في المنطقة العربية، كيف كان يمكن للديمقراطية أن تتطور وبأي اتجاه؟ وهل كان يمكن لشكل “الدولة – الأمة” الذي ورثه السودانيون عن المستعمر، أن يسير وفق صيرورة الدولة القومية في تطورها الديمقراطي، على غرار تطور الدولة القومية في أوروبا؟ وهل كانت هناك إمكانات استراتيجية لضمان توجيه ذلك التطور الديمقراطي نحو صياغة هوية يمكنها أن تختبر الاضطلاع بمهمات بناء الدولة؟
وفي ظل هذه التساؤلات؛ ماذا فعل نظام الإسلام السياسي بالسودان من خلال انقلاب البشير – الترابي؟ وهل يمكن القول إن ما أصاب السودان عبر تلك التجربة الأيديولوجية لحكم الإسلاميين كان طبيعياً؟ أم كان مؤشراً على قطيعة ارتدادية كشفت عنها سنوات التجربة؟ وهي تساؤلات تتفرع عنها أسئلة من قبيل:
هل كان السودان يتجه إلى صيرورة ديمقراطية مضطردة، بحال لم ينقلب الإخوان المسلمون على الحكومة المنتخبة في عام 1989؟ وكيف يمكننا اليوم تصور الهوية السودانية التي كانت قيد التشكل آنذاك، لو تيسر لها نمواً حراً؟ وهل ما كان شكلاً ديمقراطياً في الممارسات الحزبية الهشة خلال مرحلة الديمقراطية الثالثة 1985 -1989، هل كان سيفضي إلى انسداد سياسي بالضرورة؟
وكيف كان يمكن أن تتشكل أطوار المجتمع السوداني ما بعد الاستقلال عبر تجارب القوى المدنية والنقابات ومستوى التعليم الذي عبّر عن وعي واعد ومختلف باتجاه حداثة سودانية متصالحة مع العالم، وكيف يمكن اليوم تقييمها بعد 30 سنة من انقلاب نظام الإخوان المسلمين؟ وهل كان خطاب الإسلام السياسي، بوصفه خطاباً يضمر “قَدَامة” وأيديولوجيا تعبّر عن وعي مجرد بثقافة النص (لا ثقافة التاريخ المتصلة بفهم التحولات)، هل كان ذلك الخطاب عنصر هدم في المجتمع السوداني خلال 30 سنة من الحكم الانقلابي للإخوان المسلمين؟
وأخيراً، كيف أثّر غياب السودان عن المحافل الدولية لـ30 سنة وانغلاقه عن العالم المعاصر على حياة السودانيين في مختلف أطوارها؟ وما هي النكسات التي وضعت السودان أمام مآزق داخلية وخارجية؟ ثم ما الذي يمكن أن تحققه حكومة الثورة من خلال سياسة الانفتاح على العالم؟
الثقافة المغلقة
طرحت “اندبندنت عربية” هذه التساؤلات على نخبة من الباحثين والإعلاميين السودانيين؛ ويقول رئيس مجلس إدارة صحيفة “الديمقراطي” السودانية، الأستاذ الحاج وراق “تلعب الثقافة المغلقة دوراً معيقاً للانتقال الديمقراطي. فتحتاج المنطقة العربية الإسلامية إلى ثورة روحية أخلاقية فكرية، ولكن هذه عملية معقدة وتتطلب زمناً وقدراً من الحريات وقبول الآخر وحكم القانون، أي قدراً من التحول الديمقراطي، ما يجعل الأمر وكأنه متاهة مغلقة. لكن ما يعطي الأمل في إمكان تخطي ذلك، هو ما جرته هذه الثقافة على إنسان المنطقة وعلى معتنقيها أنفسهم من ويلات وعذابات، بالتالي إمكان استخلاص العبرة الصحيحة بأنه من الأفضل التراضي على صيغة التعايش السلمي الديمقراطي بدل النمط السائد من ضرب رقاب بعضنا البعض. كما أن الثقافة مهما كان رسوخها النسبي، فهي ليست لعنة أبدية، ولا صبغات وراثية تنتقل كقدر لا راد له، وإنما هي كائن عضوي قابل للتطوير والتجديد. ومن بعد ذلك، تأسيس التسامح فكرياً وأخلاقياً وتحويله إلى ثقافة سائدة. فالديمقراطية يمكن أن تنشأ كثمرة للضرورات الضاغطة، ولكن بالطبع، وبخاصة على المدى الطويل، لا يمكن ضمان بقاء الديمقراطية، ما وراء هذه الصيغة البدائية، إلا بأن تغدو الديمقراطية مجموعة مترابطة من القناعات والقيم والقواعد والمؤسسات والممارسات”.
أما الدكتور المحبوب عبد السلام، رئيس “الرابطة العربية للتربويين التنويريين”، فيقول “أظن أن التأمل لتاريخ افتراضي ولصيرورة خيال هو نفسه معرّض لسائر الاحتمالات، أقل جدوى من تأمل ما حدث بالفعل في سياقه النفسي والاجتماعي، فالسودان مثلاً عندما انجلى عنه الاستعمار البريطاني كان يحمل مذخورات لتطور شعوبه نحو أمة حديثة ذات هوية جامعة مهما تكن منفتحة للتحولات. كانت هنالك خدمة مدنية منضبطة، ونواة أجهزة عسكرية معتلة منذ البداية لأنها بلا استراتيجية أمن قومي وعقيدة قتالية بيّنة، كان هنالك نمط تعليم موصول بجامعات المستعمر المتقدمة ولكن هناك أطراف محرومة منه. كان هناك بداية لاقتصاد ذي موارد ولكن استمر نمط المستعمر في التنمية، بتركيز المشروعات في المركز… والسؤال هو: لماذا لم تنتبه النخبة الوطنية الأولى وتستدرك تلك النواقص الخطرة؟ فما حدث هو النقيض، فاقمت الأنظمة من مشكلات الهامش، وسخرت الجيش الوطني للحرب على الشعب وللانقلابات؛ لذا فانقلاب عام 1989 يوشك أن يكون حتمياً في السياق التاريخي، إذ إن تنظيماً حزبياً أضحى أشد انضباطاً وفاعلية من الحكومة، كما كانت الحال في انقلاب نوفمبر 1985 وانقلاب مايو 1969، كلاهما يكادان يكونان حتميين؛ لأن الصراع الحزبي فتح خروقات نفذت منها الجهة الأقوى والأفضل تنظيماً في الدولة (وكانت يومئذ هي القوات المسلحة). أما لماذا كان الانقلاب، مرةً انقلاب جنرالات، ومرة أخرى، انقلاب يساري النزعة ومرة انقلاب إسلاموي؟ الإجابة بالطبع واضحة في توجهات النخبة الفكرية وإلهامها الروحي في كل مرحلة”.
وبخصوص إمكانية استمرار تشكل الهوية والديمقراطية معاً في صيرورة واحدة بحال لم يتم انقلاب الإخوان المسلمين في عام 1989، يتساءل المحبوب عبد السلام “هل كانت الهوية السودانية أو الدولة الوطنية ستمضي في طريق الاكتمال إذا لم يقع انقلاب الإنقاذ عام 1989؟ الإجابة في تقديري لا، لأن المعارضة لم تكن ناجحة تماماً في التصدي لمشروع الإسلاميين بمشروع سوداني أصيل على الرغم من حصولها على لحظة ذهبية عندما وقّعت ميثاق أسمرا في عام 1995، كما أن الأحزاب لم تستثمر هدنة اتفاقية السلام الشامل بين عامَي 2005 و2010 في إعادة التأسيس لرؤاها وبرامجها وتجديد قيادتها”.
غياب المشروع التوافقي
من جانب آخر، صرح الدكتور محمد محجوب هارون؛ أستاذ علم النفس والمدير السابق لمعهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم، أن “الأداء السياسي بعد انتفاضة أبريل 1985 لم تبدُ ملامح تحوّل أكيد لصالح تعزيز بنية حالة ديمقراطية، إذا استبعدنا انتخابات 1986 التي كانت حرّة ونزيهة نسبياً وغير متنازَع على نتيجتها الديمقراطية المتطوّرة باتجاه الاستدامة كمشروع، والمشروع تصنعه قيادة، ليست بالضرورة فرداً نجماً مُلهَماً. وهذا ما لا تتوفّر أدلّة على وقوعه في حقبة 1986 -1989. فلم تشهد حقبة ما بعد الانتفاضة استقراراً سياسياً ولا أمنياً. فالفضاء السياسي الوطني لم يتطور باتجاه بناء مشروع توافقي لمصلحة التطور الديمقراطي يتجاوز مواثيق قانونية تضعف قيمتها في غياب إرادة سياسية وقيادة سياسية. فلم تتجاوز تلك الحقبة النزاع المسلح في جنوب البلاد، فضلاً عن أنها شهدت بدايات مبكرة لنزاع غرب السودان، بخاصة في دارفور. هذا الواقع أخذ يدفع سباق الانقلابات العسكرية. وهي انقلابات لم تكن مدفوعة كلياً، بشهوة سلطة بل بالخوف من مصير مجهول أيضاً، كما كانت تتصوّر قيادة الإسلاميين. أمّا سؤال الهوية، فموضوع مختلف عن موضوع الديموقراطية واستدامتها. الهُويّة علامةٌ لتكوين مركّب، في مركزها المكوّن الثقافي. وبطبيعتها هذه فممسكاتها أكثر تجذراً من المتغير من مكوناتها. الديمقراطية ترِد في باب المصلحة العمومية لا باب الهُويّة. وأعتقد أن خطاب الهُويّة لدى قطاع من النُخبة الوطنية مهوّل من دون مبرر”.
تسفيه الديمقراطية
من جهة ثانية، ترى الباحثة في قضايا الديمقراطية والإسلام السياسي، رئيسة تحرير صحيفة “التغيير” الإلكترونية، الأستاذة رشا عوض، أن “انقلاب الإسلامويين في عام 1989 حرم السودان من فرصة بناء ديمقراطية مستدامة. وتقويض التجربة الديمقراطية بدأه الإخوان المسلمون (الجبهة الإسلامية القومية) حتى ما قبل الانقلاب عبر الإعلام المتخصص في تسفيه الديمقراطية واغتيال شخصيات العهد الديمقراطي، وعبر خلق أزمات اقتصادية، من خلال نفوذهم الاقتصادي الكبير في السوق والبنوك، ثم استغلال الأزمات في تعبئة الرأي العام ضد الديمقراطية لتهيئته للانقلاب. على الرغم من كل عيوب التجربة الديمقراطية إلا أنها كانت تمضي بنجاح في ملف السلام مع الجنوب، وكان هناك اتفاق على عقد المؤتمر الدستوري في 18 سبتمبر 1989، أجد صعوبة في الجزم بأن السودان لولا انقلاب الإخوان كان سيمضي في الطريق الديمقراطي، وذلك لأن أعداء الديمقراطية كثر، مثلاً لو لم ينجح انقلاب الإسلاميين، لكانت هناك مشاريع انقلابية أخرى، على رأسها انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي، ومشروع انقلابي آخر لأنصار نظام مايو. وكان هناك نظام منقستو الإثيوبي الذي كان يدعم بقوة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق. وكان موقف قرنق سلبياً جداً من الديمقراطية وعمل على إضعافها، هذا بالإضافة إلى أن الخط الاستراتيجي لمصر، هو أن يكون الحكم في السودان عسكرياً موالياً لها. أضف إلى ذلك، ضعف الكفاءة الإدارية والتنظيمية والاستخباراتية للأحزاب السودانية الحاكمة، وإنهاك الواقع الاقتصادي المنهار الذي كانت تواجهه. باختصار، السودان حتى هذه اللحظة لا يملك مشروعاً للديمقراطية المستدامة.
وحيال تعثر شكل الممارسات الحزبية الهشة للفعل الديمقراطي بين عامي 1986 و 1989 وما إذا كانت ستفضي إلى انسداد يؤدي إلى انقلاب؛ يعتبر الدكتور محمد محجوب هارون أن ” أيّاً كان مقدار ضحالة الحالة الديموقراطية لحقبة 1986 – 1989، فليس من الموضوعية العجز عن النظر إليها كمحاولة في ذلك الاتجاه وإن لم تحقق التقدُم المأمول. لم تكن الممارسة الحزبية شكليّة بهذا الإطلاق. صحيح أن الوعي السياسي الديمقراطي لم يتجاوز تقاليد السلف الحزبي. صراع السلطة ظلّ مسيطراً. لم تكن هناك حتى ثمة خطة لتبنّي مشروع وطني لتحقيق سلام شامل ومُستدام وتعزيز قاعدة الديمقراطية والشروع في مشروع صبور لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي. صراع سياسي أجوف في أحسن أحواله. هذه، بالتأكيد، حلقة دائرية لإنتاج البؤس السياسي”.
أما الأستاذ الحاج وراق، فيقول “يمكن تلخيص أهم الأسباب التي قادت إلى انقلاب الإخوان المسلمين في 1989، بعدم القبول الفكري والعملي بالتعددية مما أدى إلى استمرار الحروب الأهلية، إضافة إلى حدة الاستقطابات السياسية؛ ووجود مغامرين انقلابيين داخل القوات المسلحة وفي أحزاب شمولية لا تضع الديمقراطية في مركز مشاريعها الأيديولوجية، وضعف أداء المؤسسات المدنية بما في ذلك أداء الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، إضافة إلى التدخل الخارجي”.
وبشأن أطوار تشكُّل المجتمع السوداني ما بعد الاستقلال وما كانت تعد به من وعي مختلف باتجاه حداثة سودانية متصالحة مع العالم، لولا انقلاب الإخوان المسلمين، تقول الأستاذة رشا عوض “حدثت ردة كبيرة في المجال الرئيس لتطوير الوعي وهو التعليم الذي دمره نظام الإخوان المسلمين عن قصد. تراجع مستوى التعليم العام والعالي، تم إضعاف اللغة الإنجليزية التي كانت لغة التدريس في كل الجامعات السودانية وتم تعريب التعليم العالي بصورة مرتجلة، وهذا لعب دوراً في تراجع الانفتاح على العالم الخارجي، إضافة إلى ازدهار الروابط القبلية على حساب الانتماء القومي”.
أطوار تشكل المجتمع
من جانبه، يجيب الكتور محمد محجوب هارون على ذات التساؤل، قائلاً “ليس واضحاً لي ما إذا كانت هُناك أطوار ثلاثة لتشكُل المجتمع السوداني لما بعد الاستقلال؟ هل هي ما يتمثّل في نشوء مجتمع مدني ونقابات وتعليم حديث، التي وردت الإشارة إليها في السؤال؟ التعليم الحديث رافعة رئيسة لتحقيق التحديث. ليست الحداثة بكونها تجربة وحقبة تاريخية أوروبية تشكلت بدءاً من القرن السادس عشر الميلادي، وإنما التحديث بمعنى الانفتاح على العصر وما انتهت إليه التجربة الإنسانية واستثمار ذلك كله لتحقيق التقدم المعرفي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. التعليم الحديث يصنع السودان المعاصر. يتعاضد معه في ذلك التحول الحَضَري وتضخم المدينة وتحسن القدرة المادية على الانتقال والعالم الإسفيري. هذه الروافع تسهم في صناعة سودان حديث، وإن لم يكن على قطيعة مع ميراث ثقافي ممتد مستند إلى أصول دينية، إسلامية غالبة، وتقاليد ليست بالضرورة ذات جذر ديني (دين سماوي). وضع تجربة الإسلاميين – الإنقاذ – البشير (1989 – 2019) في مقابلة مع التحديث، موضوع يحتاج إلى مراجعة. الإسلاميون السودانيون، مع ارتباطاتهم بأطروحات دينية سلفية وتكوين محلّي منغلق مما يستوجب المراجعة، لكنهم يعبّرون في جوانب مهمة من تجربتهم في الفضاء العام عن وجوه من التحديث. الدولة ذاتها التي أداروا هياكلها، مثلاً، مكوّن تحديثي. المقابلة بين الإسلاميين والتحديث موقف مُطلقي Absolute، كسول عاجز عن البحث في التفاصيل”.
ويواصل هارون حديثه بالقول “أما إشارتكم إلى التصالح مع العالم فتطرح سؤالاً، بدايةً، عن ماهية العالم المقصود؟ وما مكوناته؟ يبدو أنكم تشيرون إلى عالم أحادي، من قُطب واحد. هذا ما أُطلق عليه اسم النظام العالمي الجديد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وأُفول شمس الحرب الباردة، والذي تزامن مع مجيء الإسلاميين السودانيين إلى الحُكم في عام 1989. هو عالم فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الخاتم)! هذا عالم حاولت القوّة المنتصرة، اليورو-أميركية، صناعته بمنظورها الذاتي. هذا التصور المفهومي هو امتداد للمركزية اليورو -أميركية. من زاوية تصورية. العالم هو نحن جميعاً. نحن وهؤلاء وأولئك وهُم. هو بالتالي عالم متعدد التكوين (هويّة ومنظورات للكون وأقاليم وثقافات ومشروعات ومصالح وطنية وإقليمية)، مع اختلاف الأوزان بحسابات القُوة الكليّة. انطلاقاً من هذا التعريف، يجب أن يتأسّس الموقف من هذا العالم. وبالضرورة لسنا محتاجين إلى التصالح مع شركائنا في هذا العالم والتعايش معهم فحسب، بل نحتاج إلى تفاعل إيجابي وبنّاء (ديناميكي) معه. إسلاميو السودان، في فصول من تكوينهم وأدائهم كحاكمين، يشبهون بقية السودانيين. هذا تقدير مهم يمثّل عدم وضعه في الحساب مهدّداً كبيراً لمستقبل البلاد بين أيدي غير الإسلاميين، إذ ستكون مسرحاً للعقلية ذاتها، وثقافة الحُكم ذاتها، والأداء ذاته أو ما هو أشد فداحة من الأداء المتواضع للإسلاميين في الحكم”.
وبخصوص الطبيعة الأيديولوجية الانسدادية لخطاب الإسلام السياسي، تقول رشا عوض إن “خطاب الإسلام السياسي أدى إلى نمو ثقافة التطرف الديني المعادية للديمقراطية وحقوق الانسان في أوساط كبيرة من المجتمع، وأدى إلى إضعاف الرابطة الوطنية لأن هذا الخطاب لا يقيم وزناً للوطن، وثقافته السياسية قائمة على أساس أن الرابطة الأيديولوجية بين الإخوان المسلمين حول العالم أقوى من الرابطة الوطنية التي تربطهم بالسودانيين غير المنتمين للإسلام السياسي”.
ويتحدث المحبوب عبد السلام عن الخطاب ذاته، قائلاً “في بلد مثل السودان متنوّع مركّب لا تكتمل هويته إلا بتمام الحرية لكل ثقافاته، تبيّن تماماً خلال ثلاثة عقود من حكم الإنقاذ أن النظام دفع بتلك الأزمات إلى مداها، فتيار الإسلام السياسي نفسه عجز عن تعريف تلك المشكلات لأنه يحبس نفسه بالكامل في أيديولوجيا ماضية تتناقض مع مفاهيم الدولة الحديثة، وتبيَّن بصورة حاسمة أن ذلك الخطاب استنفد أغراضه وظل لمدة 20 عاماً ينازع سكرات الموت”.
مصطلح أم ديباجة؟
من جانبه؛ لا يُسَّلِمُ محجوب هارون بدلالة مصطلح “الإسلام السياسي”، مجيباً على السؤال ذاته بالقول إن “الإسلام السياسي ديباجة مستَلَفة من سياق ثقافي ديني حضاري غربي. المسيحية بتسيّدها للفضاء الديني في الغرب، اليورو – أميركي، تقوم على التمييز بين الإله والقيصر. بالتالي عندما وضع دارسو الحركات الإسلامية الغربيين وبعض تلاميذهم النظارة ذاتها لم يجِدوا بداً من وصف الحالة الدينية الإسلامية التي تعتبر الفضاء العُمومي حقلاً للتديّن بالإسلام السياسي. أنا أعترض على هذه الديباجة وبالتالي ما يستند إليها من فروض وتحليل ونتائج”. لكن هارون أكد في الوقت ذاته، أن “تجربة حكم الإسلاميين – الإنقاذ – البشير شابها، ضمن مآخذ كُبرى أخرى، استعداد مبكّر لاستعداء شركاء الجماعة الإنسانية. وبدا لي أن منشأ ذلك، قُصور في معرفة الآخر وخوف منه، بمبررات حيناً ومن دون مبررات أحياناً أخرى، وضعف إلمام بماهية الدولة وموضوع الحُكم”.
وأخيراً، حول كيف أثَّر غياب السودان عن المحافل الدولية لثلاثين عاماً وانغلاقه عن العالم المعاصر، في حياة السودانيين في مختلف أطوارها، وما هي النكسات التي وضعت السودان أمام مآزق داخلية وخارجية؟ ثم ما الذي يمكن أن تحققه حكومة الثورة من خلال سياسة الانفتاح على العالم؟ يقول الحاج وراق “استولت الجبهة الإسلامية القومية على السلطة بالانقلاب في 30 يونيو 1989، بدافع من أيديولوجيتها التي ترى في الديمقراطية سُلَّماً تصعد عليه وتلقيه في الوقت المناسب، إضافة بالطبع إلى تطبيق مشروعها “الحضاري” الذي يتمحور حول القوانين الدينية ولا يضع الديمقراطية كأولوية أو كقيمة مركزية، وهو مشروع مرجعه في ذاته وليس في اختيار الشعب، باعتباره مشروعاً يعبّر عن الحاكمية الإلهية، ويلزم تطبيقه بغضّ النظر عن رغبة المحكومين، وهكذا اعتمدت الجبهة الإسلامية الانقلاب العسكري كآلية للوصول للسلطة والمحافظة عليها باستخدام العنف. ولأن النظام تغطى بالشرعية الدينية، فقد شرعن عنفه كذلك بالدين، فخاض فيه بلا تساؤل وبلا تأنيب ضمير، فوصل به إلى مستويات باهظة أدت إلى إرتكاب جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية”.
من جانبها، ترى رئيسة تحرير صحيفة “التغيير” الإلكترونية رشا عوض أن “السودان دفع ثمناً اقتصادياً باهظاً بسبب العقوبات الاقتصادية وضاعت عليه فرص عظيمة بسبب تصنيفه دولة راعية للإرهاب، وأكبر المآزق الداخلية هي الحروب الأهلية في دارفور والجنوب، قبل الانفصال، ثم في جنوب كردفان والنيل الأزرق، بعد انفصال الجنوب، لكن مع التغيير الثوري الجديد وانفتاح السودان على العالم نستطيع أن نعيد هيكلة الاقتصاد السوداني، واستقطاب الاستثمارات والاستفادة من الدعم الدولي في بناء القدرات للسودانيين في مختلف المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والزراعية والمصرفية. كل ذلك مشروط بالنجاح في بلورة مشروع وطني يحقق الاستقرار السياسي، مشروع ينفذ إصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة”.
أما رئيس الرابطة العربية للتربويين التنويريين، الدكتور المحبوب عبد السلام، فيقول إن “سقوط النظام أخذ كل تلك المدة الطويلة على الرغم من أنه انشق على نفسه وفقد هويته الأخلاقية بعد فقدانه مرجعيته الفكرية، والسبب في ذلك يكمن في تدفق عوائد النفط وبالتالي وجود هامش لراحة بعض المواطنين، لا سيما في المراكز الحضرية، ووجود احتياطي للمال السياسي ساعد في توقيع اتفاقيات مع بعض فصائل المعارضة، لكن السبب الجوهري هو ضعف مؤسسات المجتمع وعلى رأسها الأحزاب”.
تعميم خاطئ
ويعتبر أستاذ علم النفس، والمدير السابق لمعهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم الدكتور محمد محجوب هارون، أن السودان “لم يغب عن المحافل الدولية بحساب الوقائع. غياب السودان عن المحافل الدولية تعميم خاطئ. نحتاج إلى وصف أكثر دِقّة لواقع علاقة السودان بمحيطه الدولي. لم يخسر السودان عضويته بالمنظمات الدولية أو الإقليمية خلال حقبة الإسلاميين – الإنقاذ – البشير (1989 – 2019) لكنه كان في وضع الدولة المنبوذة (Pariah). ويتحمّل الإسلاميون مسؤولية هذا الوضع بمقدار كبير، إذ كان مُمكناً لقيادتهم تفادي ذلك أو التخفيف من حدته. وبالطبع حمل السودانيون عبء كونهم دولة منبوذة. ودُفِعَ مُعارضون سودانيون إلى تعزيز صورة الدولة المنبوذة من واقع الانقسام السياسي الذي زاد مجيء الإسلاميين السودانيين للحكم عبر انقلاب عسكري، من حدّته. لم يكن السودان في حاجة لمواجهة العالم، ولو كانت هذه المواجهة مطلوبة أو مفروضة عليه لكان عليه أن يعمل على تجنب وقوعها، فالسودان لا يملك القُدرة على ذلك، بدايةً. السودان يحتاج إلى أن يعيش بسلام مع نفسه ومع الآخرين. والقيادة ذات التكوين الاستراتيجي تفهم أن عليها ألا تفقد القدرة على التركيز على الأهداف الوطنية الاستراتيجية. يلزم السودان الانتقال من التهريج إلى التركيز”.
وأخيراً يختم الدكتور محمد محجوب هارون كلامه حول قضية الانفتاح التي يستشرفها السودان مع العهد الجديد وحكومة الثورة بالقول إن “الانفتاح على العالم متطلَب لا يحتاج إلى التذكير بأهميته وأولويته. نحن، كما قُلت نحتاج إلى العيش بسلام مع أنفسنا وأن نعيش بسلام مع الآخرين. هذا الانفتاح يكتسب قيمته من كونه سيُخلي بيننا وبين شركائنا في الجماعة الإنسانية، بدرجة تتيح لنا تعاملاً سلساً مع المؤسسات والأفراد ممَن نحتاج إلى التعامل معهم لتحقيق المصلحة العمومية الوطنية. لكن ينبغي ألا ننظر إلى الانفتاح على العالم على أنه فتح بركات السماوات والأرض للسودانيين والسودانيات. العالم مشغول بمصالحه العمومية وبالمصالح الخاصة لمواطني بلدانه. وليس في أولوياته الانشغال بمصلحة السودان ومصالح مواطنيه، بل إنه لا يُمانع أن يعمل ضد تحقيق مصلحتنا (السودانيين) في حال تقاطع ذلك مع مصالحه.
لكن في ظل مناخ دولي يساعد على تعايش بلادنا مع العالم والتفاعل الإيجابي والبناء معه، فإنّ الذي أمامنا هو: كيف نوظّف ذلك لبناء قاعدة قوتنا الذاتية؟ هذا ملف في السياسة الداخلية هو مبدأ ومنتهى، ما يلزمنا التركيز عليه في ظروف علاقة مع الجماعة الإنسانية تبدو مؤاتية أكثر قياساً بما ساد خلال حقبة حكم الإسلاميين – الإنقاذ – البشير”.
*منقول-اندبندنت عربية