قبل فترةٍ كنتُ أقرأ مقالاً للبروفسير قاسم عثمان نُور عن “البروفسير عبد الله الطيب: عرض وتلخيص لمؤلفاته”، ولم أجد في المقال إشارةً إلى تاريخ توليه عمادة كلية الآداب جامعة الخرطوم، فتصفحتُ “موسوعة القبائل والأنساب في السودان” للبروفسير عون الشريف قاسم، ولم أجد أثراً لذلك. بعدها آثرتُ استشارة محرك قوقل (Google) فكانت الإجابات في كل المواقع الإلكترونية التي وقفتُ عليها أنَّ البروفسير عبد الله الطيب كان عميداً لكلية الآداب في الفترة من 1961 حتى 1974؛ لكن الشيء الذي استرعى فضولي، أولاً: أنَّ البروفسير عبد الله الطيب كان من ضمن القائمة الأولى من أساتذة جامعة الخرطوم الذين فصلتهم “ثورة مايو” في بادئ عهدها (1969-1970)، بحجة أنهم غير مواكبين لتوجهات “الثورة الاشتراكية” وبعضهم معارضٌ لها؛ وثانياً: أن البروفسير عبد الله الطيب قد أشرف على إنشاء كلية عبد الله باريو في جامعة أحمد وبيلو في كانو بنيجيريا (1964-1965)، فكيف يكون عميداً لكلية الآداب في الوقت نفسه؟؛ وثالثاً: أنَّ تقاليد جامعة الخرطوم لا تسمح لأي عميدٍ أن يظل في منصب العمادة لمدة ثلاثة عشر عاماً. فدفعتني هذه الاستفهامات والفضول إلى البحث عن مصدرٍ موثقٍ لعمداء كلية الآداب جامعة الخرطوم، وبعد الاتصال بالبروفسير فدوى عبد الرحمن علي طه، مديرة جامعة الخرطوم السابقة، والدكتورة سلمى عمر السيد، عميد كلية الآداب الأسبق، حصلت على نتيجة مفادها أنَّ البروفسير عبد الله الطيب قد تولى عمادة كلية الآداب جامعة الخرطوم لثلاث دورات غير متعاقبة ٍ (1961-1964، 1966-1970، 1971-1974)، وأنه لم يكن العميد الثاني في الكلية بعد تغيير اسم كلية الخرطوم الجامعية إلى جامعة الخرطوم عام 1956 حسب ما تشير إلى ذلك بعض المواقع الإلكترونية؛ فكان البروفسير مكي الطيب شبيكة العميد الأول (1955-1958)، وجون هارولد جورج ليبون (John Harold George Lebon) العميد الثاني (1958-1961).
(2)
مِنْ جون ليبون؟ ومِنْ أين أتى هذا الرجل؟
ينحدر جون ليبون من أسرةٍ بريطانيةٍ عريقةٍ، وُلِد في 25 أبريل 1909، وتلقى تعليمه الثانوي بمدرسة ليتون العليا (Leyton High School) في مدينة إسكس (Essex) في الفترة 1920-1927، ومنها انتقل إلى مدرسة لندن للدراسات الاقتصادية لمدة ثلاث سنوات. وبعدها حصل على منحة دراسية مكَّنته من الحصول على درجة البكالوريوس في العلوم، تخصص رئيس جغرافيا، وبتقدير مرتبة الشرف الأولى. وبعد تخرجه التحق بجامعة قلاسقو (Glasgow)، وعمل في وظيفة مساعد محاضر بقسم الجغرافيا (1930-1933)، ثم انتقل إلى كلية كوين ميري بجامعة لندن لمواصلة دراساته العليا (1933-1939). وأثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، عُين ضابط إرصاد جوي في وزارة الطيران، ثم القوات الملكية الجوية. وبعد انتهاء الحرب عاد إلى كلية كوين ميري بجامعة لندن؛ حيث حصل على درجة دكتوراه الفلسفة في الجغرافيا عام 1946، عُين محاضراً بالكلية نفسها. وأول عمل له خارج بريطانيا، كان استاذاً للجغرافية بجامعة كولمبو (سريلانكا) لمدة عامين، ثم كلية الآدب والعلوم بغداد لمدة ثلاث سنوات. في العام 1953 عُين رئيساً لشعبة الجغرافيا بكلية الخرطوم الجامعية، حيث أسهم في تأسيس الشعبة ورفع كفاءتها العلمية. درس عليه نخبة من طلاب وأساتذة جامعة الخرطوم، الذين تخصصوا في مجال الجغرافيا. وفي العام 1958 عُين عميداً لكلية الآداب بجامعة الخرطوم، خلفاً للبروفسير مكي الطيب شبيكة، ثم أصبح رئيساً فخرياً للجمعية الفلسفية السودانية.
وبعد انتهاء فترة عمادته بجامعة الخرطوم عام 1961، عاد ليبون إلى بريطانيا برفقة زوجه وأطفال الثلاثة، حيث عمل باحثاً، ثم محاضراً، ثم أستاذاً بقسم الجغرافية بمدرسة الدراسات الآسيوية والأفريقية، جامعة لندن. وأثناء فترة عمله بجامعة لندن أصدر سلسلة من الأبحاث الرائدة في مجالها، ومن أشهرها كتابه “مقدمة للجغرافيا البشرية” (An Introduction to Human Geography)، 1952، الذي أصبح كتاباً مرجعياً في كثير من الجامعات، وصدرت منه عدة طبعات؛ وقبل أربعة أعوام من تاريخ وفاته أصدر كتابه الموسوم بـ (Land Use in Sudan). توفي ليبون في 10 ديسمبر 1969 بلندن، بعد عمرٍ ناهز ستون عاماً. وبوفاته قد فقد معهد الجغرافيين البريطانيين “أحد أعضائه المؤسسين، والجغرافيين البريطانيين، والخبراء البارزين في جغرافية الشرق الأوسط”، كما كتب المعهد في صحيفة رثائه.
(3)
قصدتُ بهذه الفذلكة عن البروفسير جون ليبون توضيح مقصدين. أولهما، أنَّ المؤسسات الحكومية في السودان تفتقر للتوثيق الجاد لتاريخها، الذي يمثل ذاكرتها المهنية، ويساعد في عملية التخطيط والتطوير المستمر والمستدام؛ وثانيهما، إنَّ جامعة الخرطوم كانت من المؤسسات التعليمية الجاذبة لنخبة من أعضاء هيئة التدريس أصحاب الكفاءات العالية من كل أنحاء العالم؛ ولذلك استطاعت أن تخرَّج طلبة وأساتذة أكفاء في مجالات تخصصاتهم المتنوعة، وتحافظ إلى مرتبتها المتقدمة بين الجامعات الأفريقية والعربية، لكن الحال أختلف في العقود الماضية. ونجد طرفاً من الإجابة على ذلك في رد الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان، رئيس مجلس إدارة جامعة الخرطوم، على أحد الأساتذة، الذين زفوا إليه البشرى بإحراز جامعة الخرطوم لمرتبة متقدمة في قائمة ترتيب الجامعات العالمية لسنة 2022، في عهد إدارة البروفسير فدوى عبد الرحمن علي طه (2019-2022). إذ أنه ثمن أولاً التقدم النسبي التي أحرزته الجامعة، ثم علَّق قائلاً: “تقييم الجامعات من خلال تجربتي العملية يتم بناء على مجموعة كبيرة من العوامل، أهمها ومرتكزها هو الأساتذة، ودورهم في العملية الاكاديمية، والبحث والنشر… إحدى الكليات في جامعة الخرطوم كانت من أميز الكليات في أفريقيا والعالم العربي ؛ لكنها فقدت هذه الميزة بعد أن توقفت الدورية المميزة التي كانت تصدرها تلك الكلية، وبعد أن غادر معظم أساتذتها الاكفاء… قد يكون لديك أميز موقع [إلكتروني] من حيث الشكل ، ولكن إن كان هذا الموقع بلا مضمون، فلن يعطيك درجة واحدة ، والمضمون يأتي من الأساتذة، و من مقالاتهم وكتبهم، ونتائج أبحاثهم. ماذا سيدير المدير؟ وعلى ماذا سيشرف المجلس غير الدور الأكاديمي للأستاذة؟ الإدارة من المدير وطاقمه والاشراف من المجلس لهما دور؛ لكن ليس دورًا كبيرًا، الدور الحقيقي لأية جامعة في العالم هو دور الأساتذة، وهو ما نتجت عنه الطفرة الكبيرة في ترتيب الجامعة. عندما قامت الإنقاذ بفصل الأساتذة وتعيين أساتذة من خارج الحقل الأكاديمي انهارت مكانة الجامعة العالمية. ولم تفلح الكثير من المحاولات الإدارية السطحية للإنقاذ بتغيير الوضع؛ لأن الوضع الأكاديمي في الجامعة كان قد تدهور لدرجة كبيرة. الأساتذة هم أساس التقييم.” ولذلك يجب أن يعتبر صُنَّاع القرار السياسي بتجارب الماضي والحاضر، ويبعدوا الجامعات السودانية عن دائرة الصراعات السياسية غير المنتجة، والمفسدة في آنٍ واحدٍ لدور المؤسسات التعليمية.
ahmedabushouk62@hotmail.com