همسات من ضميرالغيب تسجى مسمعى
وخيالات الأمانى رفرفت فى مضجعى
وأنا بين ضلوعى لا أعى
عادنى الوجد الى ليلى وكأسى المترع
وسعير الحب يشقينى ويشقى مضجعى
ولهيب الشوق يدعونى فهل أنت معى
وقديما كان ليوناردو دافنشى يقول ” تلك هى بهجة الحياة أن تجند نفسك لمسعى تعتقد أنّه سام ونبيل ” وكأنى بعبدالعزيز محمد داوود قد سمع المقولة الدافنشية وجند نفسه ووهب حياته كلها فى مشروعه الابداعى العظيم والكبير والنبيل فى مهمة اسعاد النّاس من خلال الغناء العذب والنكات الحاضرة والقفشات السريعة والصداقات المتعددة وحب الجميع له ودخوله لأفئدتهم باغنياته الآثره ، وعبدالعزيزداوود هو الذى ملأ الدنيا وشغل المهتمين بحركة الغناء السودانى وكان نموذجا فى الحنجرة واختيار الألحان والكلمات ، وعندما يتهاوى جدار الصّمت وتخرج الكلمات وتصير أشعارا ، تهبط على أوتار يعزفها برعى محمد دفع الله ، عندما تصير الأشعار ألحانا
تجرى لمستقر لها عند حنجرة أبوداوود
يعتلى الكون غناءا وتخضر الصحارى اليابسات
وتهبط فى روابينا الأفراح ويتمدّد الوقت فى شراييننا
عندها ندرك :
أنّ أبوداوود يغنى ..!
اذن هو الدكتور محمد عبدالله الريح العالم والكاتب الذى ينثر دررا نثرية بديعة عن ابوداوود فى كتابه الموسوم ( أبوداوود .. كيف الحياة غير ليمك ) اضافة الى مؤلفات أخرى كتبت فى حضرته وهى بلغت ثلاث كتب واحد للبروفيسور على المك وآخر لمحمود أبوالعزائم و ذلك لأنّ عبدالعزيز داوود صاحب مشروع فنى كبير خلال مسيرته الطويلة فى عالم الابداع أنجز عبرها عدد من الأعمال منها ( 186 ) أغنية
و ( 49 ) مدحة و (35 ) مقابلة أجريت معه و ( 31 ) عمل من الحقيبة و ( 35 ) نشيد وطنى وحوالى ( 45 ) عمل مشترك مع الموسيقار الرّاحل برعى محد دفع الله والأخير قدّم لجمهور الغناء والموسيقى فى السودان ( 128 ) لحنا و(64 ) أغنية ، والتقى برعى وأبوداوود فى يوم جمعه من العام 1941م وذلك بحى الأمراء بأم درمان وربطت بينهما معرفة وصداقة وأثمرت لنا أغنيات عذبة منها هل أنت معى ونعيم الدنيا ولحظات متبددة و أجراس المعبد ونسائم الليل ورياضنا الغناء وعلى النجيلة جلسنا و عودة قلب ومساء الخير ياأمير و أنّة المجروح وسمير الروح ومن غير ذنب واسباب والفى دلالو ومابنسى والبرهة القليلة ونسمات الشمال ومصرع زهرة و ردى على وأحلام الحب و سلوى وغزال الروض و انا من شجونى و وقلبى همالو و يتاتى فى الترتيل و فينوس
تعالى يا انت يافينوس الوجود
تعالى واعزفى لحن الخلود
تعالى انت فى قلبى العميد
تعالى وحى الهامى وفنى
تعالى الىّ أنا
تعالى ها هنا القيثار غنّى
بكل احساس ومعنى
كم اذاب القلب فنا
كم غزا الأرواح لحنا
عندما يحلو التّغنى
ولد عبدالعزيزداوود فى العام 1922م بمدينة بربر وعمل فى بداياته فى هذه الحياة تاجرا ثم تحول الى العمل بهيئة السكك الحديدية .. الى أن أحبّ الغناء حيث كان يسير مسافة أربعين كيلومترا متجاوزا محطتين للقطار ، حتى يتسنّى له الاستماع لغناء كرومة وعبدالله الماحى وسرور ، وهو كان ولايزال متفردا بحنجرته العذبة وصوته الشجى وأداءه المختلف ( شكلا ومضمونا ) عن باقى الفنّانين ، ويمكن لنا أن نعطيك نماذجا متعددة لهذا الاختلاف والذى تتجلّى فيه براعته الأدائية ومنها ، مصرع زهرة أو غزال الروض أو انا لى زمن بنادى أو على النجيلة جلسنا أو عودة قلب للزين عباس عمارة
ويقول الدكتور محمد عبدالله الريح وهو يحكى قصة عذبة عن أبوداوود : ” ذات يوم سرحت بعيدا .. وأنا أمتطى صهوة نغمات خالدات كان يرددها ابوداوود :
حيا أنّة المجروح
ياالروح حياتك روح
الحب فيك ياجميل
معنى الجمال مشروح
بنهاية كلمة ” مشروح ” … يطلق فعل ما ، شرارة ما ، تغمر الاحساس ، يتطلب رد فعل من نوع ما ، شىء فى تكوينك الوجدانى يتفاعل مع عشرات المؤثرات الموسيقية والصوتية وينتج عن هذا طرب هائل لايمكن قياسه
بمقدار ماللحب لهيب فى الجوف
زى الزناد مقدوح
منو الجبابرة تلين
كل شىء يلين فى تلك اللحظة ، يترك الجماد هيئته ويتحول الى سائل يرتدى غلالة شفّافة فيتحول الى بخار نستنشقه ، داخل رئاتنا وخلايانا … وهكذا يتحول الطرب الخارجى الى طرب داخلى “
خرجت من حنجرة أبوداوود ( قيثارة الغناء السودانى ) عددا من الأغنيات صاغها شعرا مجموعة من أصحاب النصوص الخضراء والمفردات المموسقة .. مكى السيد .. الزين عباس عمارة .. عبيد عبدالرحمن .. على المسّاح .. أحمد ابراهيم الطاش .. عبدالرحمن الريح .. خالد أبوالروس .. مبارك المغربى .. سيدعبدالعزيز .. محمد على أحمد .. الياس فرحات .. مهدى محمد سعيد .. محمد بشيرعتيق .. ولكن ( صوت ) أبوداوود مع ( كلمات ) عمر البنّا فى نعيمهما الدنيوى ، يسعدا النفوس ويذهبا عنها كدر الدنيا ويبقى فى الأذن شىء من حتّى
وابو داوود هو فنّان ( كامل الدسم ) بل هو من القلائل الذين يتركون فى كل شىء مذاقا على حد قول الفيلسوف فولتير ، ترك عبدالعزيز مذاقا فى القفشات والألحان والاجتماعيات والونسات السودانية اللذيذة
ويقول ( البروف ) على المك عن أبوداوود … : ” جلست أنظر اليه ، لم أكن أعلم انى اشهد طرفا من ساعاته الاخيرات ، وهو جالس أمامى ، صدره يعلو سريعا .. ويهبط سريعا ، أردت أن أقول له .. أنّنى لم أكن مقتنعا بسفره للأبيض الاّ أنّه كان مريضا بحمى وبيله ، عرفت حدتها حين جعلت يدى على جبينه ، أصرّت عايدة عبدالعزيز الاّ أترك أباها يسافر للأبيض ، كانت قلقة ليلتئذ وقد زايلها مرح معهود … ولكن فى الرّابع من أغسطس من العام 1984م أغمض عينيه واسدل ابوداوود جفنيه وصعدت روحه الطاهرة الى بارئها وانطوت ( صفحات ) فنية مشرقة من ( سفر ) الابداع السودانى . هو قيثارة الغناء السودانى ، يقول الدكتور محمد عبدالله الريح : ” ابوداوود : كيف الياة غير ليمك ؟ حيث قال : يا صاحى … هذا حديث لا ينتهى … رحم الله ابوداوود عبدالعزيز بن محمد ، أشهر مغنيى الدولة الاموية والعباسية ودولة الاندلس والفاطميين والتركية والمهدية والاستقلال وعصر الاندلس … الأكبر من أبوداوود هو قلبه … ألم يسعنا كلنا ؟؟!
*مراسل بقناة الشروق الفضائية سابقا
*صحافي صحفي سوداني مقيم بالمملكة العربية السعودية