التقينا في مكتبها، حيث قدمتني الى السيدة (كارلوتا) وأوصتها بى خيراً، غير أنها وعلى عكس ما توقعت، جلست لتسمع كل شأني الذي سردته بتفاصيله للسيدة (كارلوتا) في لقاءنا الأول، استمعت بأصغاء شديد وشغف الى كل تفاصيل علاقتي بماري، كل أعترافاتي دون أن تغادر الغرفة ولو لثانية، ثم نهضت في نهاية حديثي، وهي تغمغم وتبتسم في خبث وحرفية (الآن ساترككما لوحدكما لأنني لا أرغب في الأستماع لأسرار الزبائن)، وحينما خرجت لم يعد لدى شيء أقوله فقد كنت قد أعترفت بكل شيء ولم يعد لدى اى شيء ذو أهمية أضيفه. في تلك الليلة ثارت (باربرا) في وجهي وأخذتني بعنوة واقتدار الى مخدعها، ظلت تهذي باسم ماري وتلعنني حتى تبدى شفق الصبح فسقطت منهكة، فتسللت من فراشها و تركتها و هي تغط في نوم عميق.
سيدي القاضي و السادة المحلفين
أعود الى موضوع القضية الأساسي
تحولت حياتي تحولاً درامياً، كان لماري فصل القول فيما أرتديه من ملابس و فيما اضعه من العطر، فقد كانت تستريح الى عطر (اتيرنيتي) للرجال، و تجاوز الأمر محيطنا الأثنين الى جميع صديقاتها و زملاءها في عملها الجديد بعد أن تقاعدت من خدمتها العسكرية، كانت تتصل بى و رهط من صديقاتها مجتمعات من حولها تفضحهم ضحكاتهم المكتومة، يستمعن الى مناجاتنا في فضول وعدم اكتراث، و توالت ضغوط الأعباء على مرتبي الضئيل، فهنالك مفاجأة مني تنتظرها في (الكريسماس)، و مفاجأة في رأس السنة، و مفاجأة في عيد العمال، و رحلة في (الميموريال ويك اند) وأخريات في أعياد ميلاد كل الرؤساء الأمريكيين، و عيد الأم و عيد الأب، ثم مفاجأة المفاجآت تنتظرني في بريدي في هيئة فاتورة ضخمة، مستحقة الدفع و السداد و ارباحها في كل ثانية تمضي، أفعل كل ذلك لقاء متعة ليلة الجمعة، مستسلماً لأشباع رغبات الكائن الذي افلت من عقاله، يقتلعني و يعتقني عن أسري السياسي و العقائدي و القبائلي ليصنع مني أنساناً جديدا، جائعاً يشدني من أذني، لأجد التين البري مغسولاً ينتظرني على مائدة من ذهول الحرمان و ابتذال الخطايا، استمر الحال على ما عليه، حتى ظهرت (جانيت) و لذلك قصة ولعلني اسمعكم تهتفون و كيف كان ذلك؟؟ ومتى كان ذلك؟؟
ظهرت في افق حياتي (جانيت) مثل زلزال لا يسبق حدوثه انذار.
توالت الأيام و الشهور، فولدت سنوات الكساد، انفجرت قنبلة الحرب الأولى الموقوتة في الشرق الاوسط، فدق المطالبين على أبوابي و أقضوا مضجعي باتصالاتهم التي لا تنقطع، اصحو و أنام على رنين جرس الهاتف، أبغضت كل الأتصالات، عدا اتصال واحد، كان يأتيني في الثامنة من كل صبح، عدا السبت و الأحد، كان مثله مثل بقية الأتصالات من شركات تحصيل الديون، الا أن عاملة الأتصال كانت أكثر رقة و تهذيباً ، بعكس بقية المناديب، و الذين كانوا يميلون الى أساليب التهديد و الوعيد، و بالرغم من قسوتي في الرد عليها في الايام الأولى، الا انها اثبتت بانها كانت محصلة بارعة في المساومة، ظلت تقترح على كل يوم رقماً جديداً لتقسيط الدين، و كنت أماطل دون وعي مني حتي اتمتع بسماع صوتها كل صباح، تلك كانت (جانيت)، أعتادت أذناي على سماع صوتها ، صوت عذب يصافح روحي كل مشرق شمس، حتي صرت أفتقده كل نهاية اسبوع ، و اتلهف على سماعه صباح الأثنين ، و لكنها ظلت حقيقة مبهمة، حقيقة حصينة، كائنة في مكان ما في هذه البلاد العظيمة، مجرد طيف لا تقدر على الأمساك به، فازدادت الأثارة، و دق الكائن القابع في عقلي يديه على جدران روحي بعصبية ، ألهيته من قبل بقطع التين البري، و غمرت شبقه في نهر القهوة و الحليب، لكنه تأبي بعناد رجل الكهف فافلت من عقاله، و طوى الغبار من خلفه أثر ذيله الطويل الممتد. سيدق سيدي القاضي الطاولة بمطرقته الخشبية دقتين، و سيصيح في وجهي موجهاً (دعنا من هذه الثرثرة التي لا طائل من تحتها، فنحن هنا في انتظار نهاية قصتك الأساسية)، و لكن المحلفين سيصرون من بعد عودتهم على الأستماع الى كل تفاصيل حياتي، و كل هذه العلاقات المتشابكة.
سيجيء عامل المحكمة مقتربا مني، يحمل منديل ورق، لا ادري كيف انتبه الى انني أمضغ في قطعة من اللبان، جاء تدفعه فعالية سلطته التافهة، أمرني ببصقها في المنديل الورقي، وهو يشير باصبع آمردون أن ينبس ببنت شفة، حسدته على المتعة التي ارتسمت على وجهه و هو يمارس طقسه السلطوي، أبغضته وهو يتصور أنه يؤدي عملا في قمة الرسمية لا يقل شأناً عن عمل القاضي، و هيئة المحلفين، و جيوش العسكر التي تحيط بالمبنى من جهاته الأربع، شكرني على الأنصياع لأمره بحرفية بالغة التفاهة، و انصرف و هو يحرك رأسه و قدميه المعوجتين في استياء، حتى كدت انسى نفسي و ابصق على قفاه، هاهو ذا يقترب من سلة القاذورات، و مثل ما يفعل (مايكل جوردان) بالكرة، قام بقذف كرة الورق في السلة، و لعله سمع هتافاً و تصفيقأً آتيين من مجرة أخرى، فاتني أن أذكر أن مضغ اللبان في لحظات التوتر، حيلة ماكرة تعلمتها من صديق لأتسلى بها من تذكر (التمباك)، و هي طريقة مجربة، ناجعه، ولكنها كما يبدو قد ازعجت القاضي، فتذكرت نصيحة صديقي (وودي)، بأن أي انطباع سيء تتركه في نفس القاضي، يؤثر سلباً في تقرير الحكم، هانذا قد فقدت بعضا من النقاط، ليت هذا المسخ البشري، اشار برأسه من على البعد اشارة كنت سأفهم مغزاها، و لكن لا، فهذا الأحدب قصد اذلالي أمام الجمهور الذي يملا القاعة على سعتها، ليسجل لنفسه مجدا شخصيا، مثله مثل المتحري و الشريف ووكيل النيابة و القاضي، ورئيسي في العمل و موظفي الهجرة و الجوازات، قصد اذلالي لأنني أجنبي، و لأنني ناجح، قصد اذلالي لينال رضاءً من الرجل الأبيض الذي هيأ لي فرصة أفضل منه، بالرغم من أن كلانا اسود، و لكنني اسود له جذور و تأريخ و حضارة، كم أمقت هذا الأرهاب الرسمي، الذي يذكرني دائماً، بأنني مجرد لاجئ، خشبة طافية في النهر، لا تمساح مريد.
سأنظر في وجه القاضي مباشرة هذه المرة، سأحدثه عن هذه الأرهاب الرسمي قبل أن أواصل سرد قصتي، سأقول له، سيدي القاضي، لقد علمتنا بلادكم الخوف، سينتبه الناس لقولي و كأنهم أخرجوا من سبات عميق، تعلمنا كيف نخاف سادتي، فبالرغم من شائعة الحرية و الديقراطية التي تباهون بها الأمم، فانكم تغفلون ذكرأن لهذه الحرية ثمن هو الخوف، أن تخاف من كل شيء، من الحياة و من الموت، و الهواء و الماء و الطعام و المناخ، تعلمنا كيف نخاف من رجال أمنكم المبثوثين، محترفي التلذذ بالقبض على الفقراء، نخاف من المحامين الذين نستأجرهم للدفاع عنا، لأنهم لا يبشرونك بخير ابداً، نخاف من أطباءكم الذين يقتاتون من اعلان الأخبار السيئة طمعاً في أجبار المريض على معاودتهم علهم يصيبون مزيداً من المال، نخاف من الرسميين الذين يملئوننا رعباً بحرفية عالية حين نقصر عن دفع ما علينا من أتاوات، تحولنا الى جرذان جائعة متوجسة، تنتظر لحظة وقوعها في الشراك المنصوبة للايقاع بها، سعياً وراء قطعة جبن متعفنة.
من اللحظة التي تطأ فيها اقدامنا ارض بلادكم، و نحن محاصرون برجال الهجرة و الجوازات، ألوان و أشكال من البزات الرسمية و الشارات لا تعد و لا تحصى ، وتخصصات لا حد لها، و مئات من المستخدمين الذين تحاصرهم مياه الحياة اليومية، نفثوا غلهم فينا، نحن الفقراء القادمين من وراء البحار، نصبح هدفاً لنقمتهم على تاريخ العبودية و الأضطهاد ، هم الآن في موقع اتخاذ القرار، فلا بأس من أن يتسلوا بعجزنا و قلة حيلتنا.
نخاف أن أصبنا مالاً من جباة ضرائبكم، و اذا افتقرنا أصابتنا خشية مداهمة المطالبين و سادة البنوك، نخاف من محاكمكم و سجونكم، التي تتغذى من سقطات الخلق، فان انعدمت، صنعوها و عمدوا الى اختراعها، نخاف من مصحاتكم التي تبتدع الأمراض و الأعراض و الفيروسات و الجراثيم ، حتى لا تسد ابوابها، فينقطع عنها الرزق، نخاف من تلفازكم على عقولنا، أن تجف بعد أن يغسلها غسلاً، دون ملل طوال الليل و النهار، و بمسحوق اكاذيب ( السيد رامبو)، نخاف من صالونات الحلاقة أن يتسرب الينا ( الأيدز) من موسى الحلاق، نخاف من حوادث الطريق و من الأوزون، و الأعاصير و السيول التي تجتاح بلادكم عن قصد و غضب ، و بعد أن تفشل أجهزة رصدكم العالية الدقة في توقعاتها و تنبؤاتها، طالما ان الأمر لا يتعلق باسقاط قنبلة عنقودية، نخاف عواصف الثلج و موجات الحر، نخاف الرصاص يأتينا عبر النوافذ دون استئذان، فكأننا كنا سنأذن له، نخاف على اولادنا من سوق المخدرات الرائجة، نخاف عليهم من الغذاء ذو السعرات العالية، و المعدل الجينات، نخاف الهاتف يرن في منتصف الليل أو النهارينبئنا بما لا نود سماعه من الأخبار، او يبيعنا شيئاً لا نود شراءه، نخاف أن تتحول خصوصية اسرنا الى مصدر رزق للمحامين، و الهيئات القضائية و مؤسسات الأصلاح الأخلاقي و مستشاري الزواج، و المتخصصين في اصلاح شأن الرجل و زوجه لقاء أجر معلوم، نخاف من وقاحة الناشطين بكل انواعهم، نخاف من تذكيرنا بحقوق الأنسان و حقوق الحيوان و حقوق النمل و القمل و الدواب و الذئاب و كل انواع البلاستيك، نخاف على بناتنا أن يصبحن مطايا لعرض الأزياء و عرض الأجزاء و بيع المتعة، تحت مختلف الأسماء و الأسعارو الماركات، نخاف أن نصحوا في الصباح و كلنا امل و ثقة، لنجد سياراتنا قد سحبت بأمر من الدائن، نخاف المرض بسبب فيروسات فواتير العلاج و الأطباء التي تسحقنا سحقاً حتي ينضب معين الصحة فينا، نخاف الصمت فنتهم بأضمار السوء و التآمر، نخاف الكلام حتى لا نوصف بالثرثرة، نخاف أن نحيا فنحاسب على الهواء، نخاف الموت فتنشط جهات الدفن و مكياج الموتى، و تنتفخ ارصدة صانعي التوابيت، و بائعي قطع الأرض في المدافن، و شركات الليموزين، فتغدوا لحظة موتنا أغلى من اي لحظة عشناها على ظهر هذه البسيطة.
يتبع
Painting by: Ernie Barnes