يوم غريب عجيب مليء بالحياة ومفعم بالمرارة .. بدأ باستماع لحديث موغل في الفلسفة على ما بدا به من تلقائية وبساطة في جلسة الاثنين المعتادة في حضرة الصديق الدكتور عبدالحميد الأنصاري ( كاتب وأستاذ جامعي قطري)..كان يتحدث عن المسافة بين الدعوة الى الصبر على المكاره والزهد في الدنيا، وبين انتظار الثواب في الجنة والحور العين، ولماذا ينتظر الناس وينظرون إلى الجنة من منظور الحور العين.
كان يتعمق في البحث عن مكامن هذه النظرة والجنة ومعها يقترن الحديث عن الماضي الزاهر للمسلمين وتجاوز الحاضر إلى الجنة وحورها العين وبين واقع غير المسلمين الذي يجتهدون فيحدثون تغيراً حقيقياً في حياتهم ويحيلونها إلى جنة في عالمنا الذي نعيشه ، وبنظرة فلسفية يختم كيف لا يفكر المسلمون في تحسين واقعهم، وأن يقتنع الناس بأن الحياة حلوة فعلا بقدر اجتهادنا فيها .
عدت إلى المنزل، وفاجأتني ابنتي الصغيرة التي لم تتجاوز السابعة وتهوى القراءة وقد انتقت من مكتبتي ديوان الصديق الشاعر محمد المكي إبراهيم في “البستان تختبيء الوردة “.. أخذته بلهفة قطعت عليها مابدأته من قراءة لأفتح الصفحة المحببة إلي في الديوان وقصيدته “الريال” .. كنت فعلاً بصدد كتابة خاطرة عن خلفية القصيدة وتلك الكباشية التي التقيناها معاً، شخصي للمرة الأولى وصديقي محمد المكي للمرة الثانية، وفي الأولى ألهمته القصيدة .
خرجت لأمر طارىء، وانقطع حبل التأمل فيما كنت سأكتبه، عدت ووجدت خبراً جللاً، خارت قواي .. جلست وبقيت لفترة أقلب الصور لإنسان جميل لم يعد بيننا .. لقد توقف قلب احد من أحببتهم في هذه الفانية الصديق السفير أحمد يوسف التني عن الخفقان .. مات أحمد التني .. قبل أيام قليلة كنت أتحدث عنه مع الصديق هشام الفيل .. أخبرته أن احمد لا يرد على الهاتف منذ فترة .. أخبرني بحادثة مفجعة ألمت به وهو الذي عاد إلى السودان لتلقي العزاء في شقيقته آمال التي طالما حدثني عنها بإعجاب ، وهو الذي تعود طوال حياته التواضع، ولا يتطرق إلى أمر خاص إلا فيما ندر .
عرفته منذ سنوات ورفيقة دربه السفيرة فاطمة البيلي وهو سفير وهي سفيرة في الخارجية السودانية .. تحدثنا أول عهدي به في الدوحة عن الخارجية التي كانت وكيف أصبح عليه حال بعض كبار رجال الخارجية .. حدثته بأخبار زملائه في القاهرة السفراء عزت الديب وحسن عبدالمجيد .. حكيت له كيف كان لقائي حاراً مع السفير سيداحمد الحردلو يوم التقينا بالقاهرة، وضحكنا حينما نقلت إليه بعضاً من قصيدة الحردلو التي كتبها، وهو على الطائرة إلى القاهرة .. كلما زرته في مكتبه بالمصرف الإسلامي قلت له: مهما فعلت وأخلصت فأنا لا زلت أراك أحمد السفير، سعادة السفير “خايلة فيك” مهما تقلبت بك المواقع .
كنت أقول له لم تكسبك المصارف وخسرك السودان والدبلوماسية .. شيء يقطع القلب أن تنزع الدبلوماسية السودانية أحلى مافي تاجها من جواهر ، وترمي بنوارتها في غياهب المنافي .. إيماني دوماً أن أكبر كارثة تحل على البلاد هي الانقلابات العسكرية . واأت لا تدرك الكوارث التي يحملها انقلاب على البلاد والعباد إلا عندما تجد عصارة أبناء السودان وأجمل النوار مغروسا في أرض غير أرضه، ومفرق دمه بين العواصم .
كثيرة هي الأسماء لكواكب الخارجية السودانية الذين عرفت فيهم أنبل الناس وأروع ماتفتقت عنه أرض السودان، معرفة وعلماً ودبلوماسية كما تشتهى .. عصارة وخلاصة رحيق أنجبته حواء السودانية .. في كل مكتب تقصده تجد قمراً مشعاً بمن فيه من رجال من معرفة من جد واجتهاد ومهنية كما تشتهى مصفاة ونقية . أذكرهم في الأوقات القليلة التي يلتفتون فيها لتقليب دولاب الحياة في السودان، ومعاينة كيف تسير الأمور كما كان يحب أن يقول لي نقيب المحامين صديقي الرائع ميرغني النصري .. هناك عبدالهادي صديق يحكي كيف فوت عليه السفير أمين عبداللطيف فرصة العمر بالتقاط صورة تذكارية مع رود خوليت أفضل لاعب في تلك السنةعام 1988 يوم ان التقاه في مطار استوكهولم السويدية بحث عن الكاميرا فأوقفه السفير العريق في دبلوماسيته قائلا: “كاميرا لتتصور مع مين أبو شعر مضفر ده” ؟ .
قالها ولم تكن له معرفة وتعلق عبدالهادي الشاعر والمثقف بكرة القدم .. فلما دلفا إلى القاعة واتخذا مكانهما بين حضور الاحتفال الذي قدما لتمثيل السودان فيه .. في القاعة الفخيمة التي أمها جمع قدموا من بالاد، شتى احتفالاً بمناهضة التمييز العنصري في جنوب افريقيا .. طوقت انوار الكاميرات المسرح، وكانت كل الأضواء مسلطة على خوليت وهو يعتلي خشبة المسرح، فأحس السفير امين عبد اللطيف بحسه الدبلوماسي بأهمية النجم الذي يصعد ويقابله الحضور بعاصفة من التصفيق .. ثم يعلن خوليت إهداء ميداليته الذهبية كأفضل لاعب في تلك السنة إلى المناضل الكبير نيلسون مانديلا .. قالها السفير في لهجة اعتذار لعبدالهادي : “والله زولك أبو ضفاير طلع ماهين”؟
أحمد التني في مكتبه تجده هاشاً باشاً، قليل الكلام إلا فيما يفيد . واسع المعرفة وقاريء نهم، يسعد من حاوره بثمرات ما قرأ، وهذا أحد ماكنت أحبه فيه، سعة في المعرفة وأفق يتسع ليضيء ما حوله .. الخارجية السودانية في تلك الأيام قبل الانقلاب كما يحلو لي القول كانت شيئاً مختلفاً، انظر إليهم كوكبة كل واحد منهم يقدم لك عصارة معرفية بنكهة مختلفة .. مصطفى حسن ، وحسن جاد كريم ، وأحمد دياب ومعرفة إفريقية جديرة بتلامذة رجال قادوا الدبلوماسية السودانية في قامة جمال محمد أحمد ، أناقة قريبي عمر شونة وعصام ابوجديري ، شاعرية الحردلو وجزالة الشعر عند محمد المكي ، دبلوماسية ذاخرة بالرجال، وزينها حضور نسائي مختلف، هنا فاطمة البيلي وهناك مني حسن ، هناك كمال مصطفي المكي وهنا عزت الديب .. جيل مختلف بطعم رياضي خاص هناك على قاقارين في المكتب التنفيذي، وحديث ذكريات بحضور د. محمد حسين كسلا .
أحمد التني نسيج وحده .. كان شجاعاً في إبداء رأيه حينما ينطق، وبالهدوء ذاته، يكتبه وفي جسارة ولا شيء عنده يعدل الحق والحقيقة .. أينما حل فالهم الوطني يسبقه، وفي أصعب المواقف كان يوازن بين ماهو حق دون خذلان وأعمال حنكة دبلوماسية في أخذ الحقوق كما ينبغي.
كم هو فاجع رحيلك ياصديقي وبيننا حديث لم يكتمل ..كم هو مر رحيل النوار ، وفقدان رجل بحجم أحمد التني .. أحزن لفراقك كما حزنت لأناس ثابروا على انتزاع أجمل وأغلى جواهر التاج السوداني وفرقوها بين العواصم .. خسر الوطن أحمد السفير الدبلوماسي المحنك وهو في أوج العطاء .. وحرموا أجيالاً سارت على درب العمل الدبلوماسي من أجيال كان كل واحد منهم مدرسة قائمة بذاتها داخل جامعة عريقة اسمها وزارة الخارجية السودانية .
رحل الصديق أحمد وتبقى السيرة العطرة تنير درباً لكل أولئك الذين يقتلهم الشوق لإعادة السودان إلى جادة الحق، وصواب الطريق الذي كان لأحمد دوما قدراً معلى في ارتياده .. ألا رحم الله أحمد بقدر ما أعطى للسودان ولأهله وأصدقائه ومعارفه ..
ttarigsheikh@gmail.com