حدثان عظيمان شهدتهما البلاد في الأيام الفائتة، وهما يندفعان بقوة ليصبا في مجرى الجهود المتواصلة لنشر وإفراد أشرعة الأمل في سفينة ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، التي لا تزال تبحر متباطئة وهي تبحث عن شط الأمان، تكتنفها عواصف وزوابع من يريدون إيقاف عقارب الساعة، مثلما تمكنت منها قلة حيلة السياسة التي أعيت السياسيين فأقعدتهم عن إدراك ورؤية المخارج الآمنة، حتى الآن على الأقل.
جاء الحدث الأول من خلال بيان صادر عن تنسيقية لجان مقاومة الخرطوم وسط، بثته الوسائط في الرابع والعشرين من شهر آب/أغسطس الجاري، نقتطف منه الفقرات التالية بتصرف: «…تبادر تنسيقية لجان مقاومة الخرطوم وسط بأولى خطواتها في رؤيتها في إسقاط الانقلاب وما بعده، في ظل هذا المشهد المعقد والمتشظي وأن الخاسر هي الثورة، وبتمسكنا بطبيعة لجان المقاومة في المثالية والنقاء الثوري، بل الفكري، في أن الثورة تحقق التغيير الجذري بفعلها، وكان هذا واضحاً في موقفنا من أداء حكومات الفترة الانتقالية التي لم تكن في قامة الثورة وتضحياتها وتطلعات ومراد وعشم الشعب السوداني. ووفاءً منا للشهداء، وسيرا نحو لم شمل الثورة ورتق اللُحمة الثورية، نبادر نحن كلجان مقاومة، وندعو لاجتماع لكل الاطياف السياسية، بيمينهم ويسارهم، إلا أحزاب الحركة الإسلامية وتلك المجموعات والأسماء التي شاركتها في الحكم وساندت انقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر/تشرين الأول من العام 2021، وأيضاً الدعوة موجهة للأجسام المهنية والتجمعات والأجسام المطلبية. دعوتنا هي لوحدة قوى الثورة، وإن كانت قوى الثورة متوحدة فقط ينقصها الاتفاق والالتفاف، خصوصاً أن الشارع السياسي انقسم الى قسمين، جذريين ووحدويين، وما بين الجذريين والوحدويين جرت الدماء أنهاراً والخيبات مدراراً. أما نحن فيظل موقفنا واضحاً من هذه الأحزاب والنخب عبر تجاربها الكسيحة والمريضة التي لازمتها منذ الاستقلال وإلى الآن.
عليه ندعو الجميع لاجتماع مكاشفة وصريح النيات والمواقف حول حال الشعب والوطن وقضية الدولة والثورة وآفاق الحل، وإنهاء الانقلابات العسكرية في السودان الى الأبد. وستظل لجان المقاومة على عهدها مع الشهداء في إتمام أهداف ومهام الثورة كاملة غير منقوصة، واسقاط انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول دون أي تسوية، ولإرساء أولى خطوات الديمقراطية». (انتهى الاقتطاف).
البعض ربما لا يتفق مع بعض المعاني والتحليلات الواردة في البيان، ولكن قطعا البيان في جوهره انتصار كبير في طريق شحذ الإرادة والبحث عن وحدة قوى المعارضة، كأداة للتغيير، خاصة وأنه يأتي من لجان المقاومة. وأن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي مطلقا. أشير هنا إلى أن الدعوة الواردة في هذا البيان تتفق، بل تتطابق، مع رؤيتنا التي طرحناها في مقال سابق قبل عدة أسابيع عندما نادينا بضرورة انخراط «قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة والقوى السياسية والحركات المسلحة والقوى المدنية في حوار للخروج بإعلان مبادئ متوافق عليه، مستمد من أطروحات هذه القوى بما في ذلك ميثاق تأسيس سلطة الشعب والميثاق الثوري لسلطة الشعب المقدمان من لجان المقاومة، وأي مواثيق أخرى».
لعل من العثرات التي أحدثت ثغرات في حماية الثورة، وتعرجات في مسار فترة الانتقال الراهنة، التباطؤ المزعج في إنجاز قانون النقابات، ثم التلكؤ في قيام النقابات المنتخبة بديلا للجان التسيير
كما اقترحنا في هذا الصدد «أن تبادر لجان المقاومة بالدعوى لهذا الحوار، وإذا تطلب الأمر، يمكن أن تتولى الآلية الثلاثية، اليونيتامس والاتحاد الأفريقي والإيقاد، دور الميسر والمسهل، على أن تتلقى هذه الآلية دعما مباشرا وملموسا من الأمم المتحدة/ مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي. وبالطبع، الدعم المقصود هنا هو الدعم السياسي وليس المادي». وقلنا أيضا «أن التوافق على إعلان المبادئ سيفتح الباب للتوافق، أيضا بتسهيل وتيسير من الآلية الثلاثية، على وثيقة دستورية جديدة جوهرها القطيعة التامة مع صيغة الشراكة التي كانت قائمة وأثبتت فشلها، وأن تكون السلطات السيادية والتنفيذية الانتقالية كاملة في أيدي كفاءات مدنية بدون أي محاصصات حزبية أو جهوية، وإعادة تشكيل الهيئات العدلية، والمفوضيات القومية المستقلة، ومجلس الأمن القومي، مع التحديد الدقيق للمهام والصلاحيات، بما في ذلك مهام وصلاحيات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأن تكون مدة الفترة الإنتقالية عامين تبدأ من تاريخ التوقيع على الوثيقة، ويُعقد خلالها المؤتمر الدستوري وتُجرى في نهايتها الانتخابات». لكن، المزعج تماما، والمقلق بشدة، أننا حتى اللحظة لم نر أو نسمع من جانب القوى السياسية ما يفيد تفاعلها واهتمامها، أو حتى مجرد سماعها، بهذه الدعوة التي أطلقتها لجان مقاومة الخرطوم وسط، وإذا صح ذلك، فإنه لأمر جلل.
الحدث العظيم الثاني، هو انتخابات نقابة الصحافيين السودانيين والتي تمت عبر ممارسة ديمقراطية حقيقية أعادت إلى الأذهان أجواء صحية إفتقدناها طويلا، وأكدت أن سنوات القمع وتزوير إرادة العاملين، وإن استطالت كثيرا، لم تقطع الوصل مع إرث الحركة النقابية السودانية التي ظل ديدنها منذ تأسيسها ورغم ما تعرضت له من أنواء وقمع وتشويه، التمسك بالاستقلالية وبالديمقراطية النقابية. وتاريخ الحركة النقابية السودانية يقول إن حق التنظيم النقابي تنتزعه جماهير العاملين، وأن الاستقلالية النقابية هي عدم التبعية السياسية وغير السياسية لأي طرف خارجي، وأن التوجه السياسي وغير السياسي للنقابة يأتي تعبيراً حراً عن إرادة وتوجهات الأعضاء، وأن أساس الديمقراطية النقابية هو الإرادة الحرة للأعضاء والتي تتجلى عبر الجمعية العمومية للنقابة أو الإتحاد المهني، وأن القانون الذي ينظم عمل النقابات هو صياغة قانونية لما ستتوافق علية جموع العاملين، ولا يأتي حسب أهواء المخدم أو السلطة الحاكمة أو الحزب.
والنقابة سلاح فعال لتحقيق مطالب العاملين مثلما هي أداة ضرورية لتدريب ورفع قدراتهم، ولتطوير المهنة وتحسين أجواء العمل. وهي سلاح سلمي فعال وحاسم في معارك التغيير السياسي والاجتماعي. ولعل من العثرات التي أحدثت ثغرات في حماية الثورة، وتعرجات في مسار فترة الانتقال الراهنة، التباطؤ المزعج في إنجاز قانون النقابات، ثم التلكؤ في قيام النقابات المنتخبة بديلا للجان التسيير، في حين من المفترض أن يكون ذلك في قمة الأولويات.